العارف يسير الى الله
العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل،
وهذا معنى قوله ﷺ في الحديث الصحيح من حديث بريدة رضي الله عنه:
[[سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا
عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت،
أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت]]؛
فجمع في قوله ﷺ: [أبوء لك بنعمتك علي (مشاهدة المنة)، وأبوء بذنبي
(مطالعة عيب النفس والعمل)]؛ فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد
والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل
والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت، وأن لا يرى نفسه إلا مفلساً،
وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس؛ فلا يرى لنفسه
حالاً ولا مقاماً ولا سبباً يتعلق به، ولا وسيلة منه يمن بها، بل يدخل على الله
تعالى من باب الافتقار الصرف والإفلاس المحض، دخول من كسر الفقر
والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع وشملته
الكسرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل وكمال فاقته
وفقره إليه، وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة وضرورة
كاملة إلى ربه تبارك وتعالى، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر
خسارة لا تجبر إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته، ولا طريق
إلى الله أقرب من العبودية ولا حجاب أغلظ من الدَّعوى
(يدَّعي التقوى، قيام الليل، وغيرها، يمُنُّ بأعماله؛ فيُبتلى بالرياء، وبالمنَّة
على الله)، والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها: حب كامل وذل تام،
ومنشأ هذين الأصلين عن ذينك الأصلي المتقدمين، وهما مشاهدة المنة التي
تورث المحبة ومطالعة عيب النفس والعمل التي تورث الذل التام، وإذا كان
العبد قد بنى سلوكه إلى الله تعالى على هذين الأصلين لم يظفر عدوه به
إلا على غرة وغيلة، وما أسرع ما ينعشه الله عز وجل ويجبره
ويتداركه برحمته.
"الوابل الصيب لابن القيم"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق