الثلاثاء، 24 فبراير 2015

نماذج أخرى من الوفاء


1- يذكر أن امرأ القيس الكندي، لما أراد المضي إلى قيصر ملك الروم،
أودع عند السموأل دروعًا وسلاحًا، وأمتعة تساوي من المال جملة كثيرة،
فلما مات امرؤ القيس، أرسل ملك كندة يطلب الدروع والأسلحة
المودعة عند السموأل،
فقال السموأل: لا أدفعها إلا لمستحقها. وأبى أن يدفع إليه منها شيئًا،
فعاوده فأبى، وقال: لا أغدر بذمتي، ولا أخون أمانتي، ولا أترك الوفاء الواجب علي.
فقصده ذلك الملك من كندة بعسكره فدخل السموأل في حصنه، وامتنع به.
فحاصره ذلك الملك، وكان ولد السموأل خارج الحصن،
فظفر به ذلك الملك فأخذه أسيرًا، ثم طاف حول الحصن وصاح بالسموأل.
فأشرف عليه من أعلى الحصن. فلما رآه قال له:
إن ولدك قد أسرته، وها هو معي، فإن سلمت إليَّ الدروع والسلاح
التي لامرئ القيس عندك، رحلت عنك، وسلمت إليك ولدك،
وإن امتنعت من ذلك ذبحت ولدك وأنت تنظر، فاختر أيهما شئت.
فقال له السموأل: ما كنت لأخفر ذمامي، وأبطل وفائي، فاصنع ما شئت،
فذبح ولده وهو ينظر، ثم لما عجز عن الحصن رجع خائبًا،
واحتسب السموأل ذبح ولده وصبر، محافظة على وفائه،
فلما جاء الموسم وحضر ورثة امرئ القيس سلم إليهم الدروع والسلاح،
ورأى حفظ ذمامه ورعاية وفائه أحب إليه من حياة ولده وبقائه،
فصارت الأمثال في الوفاء تضرب بالسموأل،
وإذا مدحوا أهل الوفاء في الأنام ذكر السموأل في الأول.
وكم أعلى الوفاء رتبة من اعتقله بيديه، وأغلى قيمة من جعله نصب عينيه،
واستنطق الأفواه لفاعله بالثناء عليه،
واستطلق الأيدي المقبوضة عنه بالإحسان إليه .
2- قصة أخرى يحكيها مالك بن عمارة اللخمي، قال:
كنت جالسًا في ظل الكعبة أيام الموسم عند عبد الملك بن مروان،
وقبيصة بن ذؤيب، وعروة ابن الزبير، وكنا نخوض في الفقه مرة،
وفي المذاكرة مرة، وفي أشعار العرب، وأمثال الناس مرة،
فكنت لا أجد عند أحد ما أجده عند عبد الملك بن مروان من الاتساع
في المعرفة، والتصرف في فنون العلم، وحسن استماعه إذا حدث،
وحلاوة لفظه إذا حدث، فخلوت معه ليلة
فقلت له: والله إني لمسرور بك لما شاهدته من كثرة تصرفك،
وحسن حديثك، وإقبالك على جليسك،
فقال: إن تعش قليلًا فسترى العيون طامحة إليَّ، والأعناق نحوي متطاولة،
فإذا صار الأمر إلي فلعلك أن تنقل إليَّ ركابك فلأملأنَّ يديك،
فلما أفضت إليه الخلافة، توجهت إليه، فوافيته يوم الجمعة
وهو يخطب على المنبر، فلما رآني أعرض عني،
فقلت: لعله لم يعرفني، أو عرفني وأظهر لي نكره، فلما قضيت الصلاة،
ودخل بيته، لم ألبث أن خرج الحاجب
فقال: أين مالك بن عمارة؟ فقمت فأخذ بيدي وأدخلني عليه،
فمد إليَّ يده،
وقال: إنك تراءيت لي في موضع لا يجوز فيه إلا ما رأيت،
فأمَّا الآن فمرحبًا وأهلًا، كيف كنت بعدي؟ فأخبرته،
فقال: أتذكر ما كنت قلت لك؟
قلت: نعم.
فقال: والله ما هو بميراث وعيناه، ولا أثر رويناه،
ولكني أخبرك بخصال مني سميت بها نفسي إلى الموضع الذي ترى،
ما خنت ذا ودٍّ قط، ولا شمتُّ بمصيبة عدوٍّ قط،
ولا أعرضت عن محدث حتى ينتهي حديثه،
ولا قصدت كبيرة من محارم الله تعالى متلذذًا بها،
فكنت أؤمِّل بهذه أن يرفع الله تعالى منزلتي؛ وقد فعل، ثم دعا بغلام،
فقال له: يا غلام بوِّئه منزلًا في الدار، فأخذ الغلام بيدي
وأفرد لي منزلًا حسنًا، فكنت في ألذِّ حال، وأنعم بال،
وكان يسمع كلامي وأسمع كلامه، ثم أدخل عليه في وقت عشائه وغدائه؛
فيرفع منزلتي ويقبل عليَّ ويحادثني، ويسألني مرة عن العراق
ومرة عن الحجاز، حتى مضت لي عشرون ليلة،
فتغديت يومًا عنده فلمَّا تفرَّق الناس، نهضت قائمًا،
فقال: على رِسْلك. فقعدت،
فقال: أيُّ الأمرين أحبُّ إليك: المقام عندنا مع النصفة لك في المعاشرة،
أو الرجوع إلى أهلك ولك الكرامة؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، فارقت أهلي،
وولدي على أني أزور أمير المؤمنين وأعود إليهم،
فإن أمرني أمير المؤمنين، اخترت رؤيته على الأهل والولد.
فقال: لا، بل أرى لك الرجوع إليهم، والخيار لك بعد في زيارتنا،
وقد أمرنا لك بعشرين ألف دينار، وكسوناك، وحملناك،
أتراني قد ملأت يديك؟!
فلا خير فيمن ينسى إذا وعد وعدًا، وزرنا إذا شئت، صحبتك السلامة .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق