منزلة العفو العظيمة عند الله
يستطيعه الفقير والغني , فلا يذهب عنك هذا
الفضل
يقول الإمام ابن القيم :
يا ابن ادم .. إن بينك وبين الله خطايا وذنوب لا
يعلمها إلا هو , وإنك تحب
أن يغفرها الله لك, فإذا أحببت أن يغفرها لك فاغفر
أنت لعباده ,
وأن أحببت أن يعفوها عنك فاعف أنت عن عباده , فإنما
الجزاء
من جنس العمل ...تعفو هنا يعفو هناك , تنتقم هنا
ينتقم هناك
تطالب بالحق هنا يطالب بالحق هناك
.
و قد جاء الحث علىٰ العفو في آية عظيمة المبنىٰ،
جليلة المعنىٰ،
خلابة الفحوىٰ؛ فما بالك بأمر يتكفل الله تعالىٰ
بأجره، ويجعل ذلك الأجر
مفتوحاً دون حد أو قيد ليترك للنفس تخيل عظمة هذا
الأجر الذي تكفل به
أكرم الأكرمين،
فيقول تعالىٰ :
{ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
}
الشورى: 40 ،
وهذا الأسلوب البديع الذي يفتح آفاقا من تخيل الجزاء
لا يأتي إلا في
الأمور الجليلة القدر، البعيدة المنزلة كالعفو، وكشهر
رمضان
، حيث يقول تعالىٰ في الحديث
القدسي:
( كل عمل ابن آدم يضاعف. الحسنة عشر
أمثالها
إلىٰ سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به
)
. متفق عليه
بل ويأتي القرآن برائعة أخرىٰ من روائع العفو، حيث
يجعله الله تعالىٰ
صدقة من المرء علىٰ نفسه وغيره، وميدانا للإنفاق
وإقراضا للواحد
الأحد، فيشبه العفو وهو أمر معنوي بأمر محسوس وهو
المال ليقرب
أمره، ويعظم شأنه،
فيقول تعالىٰ :
{ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ
}
البقرة: 219..
يا الله.. إن هذا الإنفاق يستطيعه كل أحد، ويقدر علىٰ
البذل منه كل إنسان،
الغني والفقير، والكبير والصغير، والضعيف والمسكين.
كل هؤلاء جعل
الله لهم ميداناً كبيراً للصدقة والإحسان، وهو العفو،
هذا البحر الذي
لا ينفد، والنهر الذي لا
ينضب.
ثم تأتي الإشارة القرآنية والتذكرة الربانية
مجلية
أمراً جميلاً، ومعنىٰ جليلاً، وهو :
أن نيل عفو القدير جل وعلا، والفوز بمغفرة الرحيم
طريقها العفو،
فيقول تعالىٰ :
{ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبـُّونَ
أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
}
النور: 22.
كان أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ينفق ويتصدق
علىٰ قريب له،
فكان منه إساءة بأن كان ممن وقع في فتنة اتهام عائشة
ـ رضي الله عنها
ـ فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه أبداً، فأنزل الله
تعالىٰ هذه الآية،
فلما سمع الصديق قوله تعالىٰ
:
{ أ َلَا تُحِبـُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ
}
قال: بلىٰ، والله إنا نحب يا ربنا أن تغفر لنا، فدعا
قريبة وأعاد صدقته
عليه قائلا: والله لا أنزعها منه أبدا.. وهكذا كان
امتثال السلف
السريع لأوامر الأحد.
بل جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه
قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
:
( أذا وقف العباد للحساب جاء قوم واضعي سيوفهم على
رقابهم
تقطر دما فازدحموا على باب الجنة فقيل من هؤلاء قيل
الشهداء
كانوا أحياء مرزوقين ثم نادى مناد ليقم من أجره على
الله فليدخل
الجنة ثم نادى الثانية ليقم من أجره على الله فليدخل
الجنة قال
ومن ذا الذي أجره على الله قال العافون عن الناس ثم
نادى الثالثة
ليقم من أجره على الله فليدخل الجنة فقام كذا وكذا
ألفا فدخلوها
بغير حساب )
صحيح الترغيب والترهيب للألباني
.
ومثل هذه الآية في التلميح بالعفو والوعد بالتجاوز
عمن عفا وتجاوز
قوله تعالىٰ :
{ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ
تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا
}
النساء: 149.
ويبين تعالىٰ أن العافين عن الناس والكاظمين الغيظ هم
أولوا التقوىٰ
الذين وعدوا بجنة عرضها السماوات والأرض قال تعالى
:
{ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ
وَالْأَرْضُ
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ
النَّاسِ
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
}
آل عمران: 133 ـ 134.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق