الأمثال
في القرآن
للدكتور الشيخ محمد راتب
النابلسي
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ،
والصلاة والسلام على سيدنا محمد
الصادق
الوعد الأمين ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين
،
وعلى صحابته الغر
الميامين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته
،
وارضَ عنا وعنهم يا رب
العالمين .
ضرب
الأمثال من الوسائل التي جعلها الله تعالى مؤثرة في الناس
:
أيها الأخوة الكرام ،
الله جلّ جلاله يقول :
{
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ }
[
الحشر : 21 ]
والله جلّ جلاله يقول
:
{
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا
إِلَّا الْعَالِمُونَ }
[
العنكبوت : 43 ]
آية ثالثة
:
{
وَيَضْرِبُ
اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ }
[
النور : 35 ]
كذلك يضرب الله الأمثال
، آياتٌ كثيرة تذكر أن الله سبحانه وتعالى
من
الوسائل التي جعلها مؤثرة في الناس أنه ضرب الأمثال
،
الآية الأولى هي قوله
تعالى :
{ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ
أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ
الْأَرْضِ
مِمَّا يَأْكُلُ
النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ
زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ
وَظَنَّ أَهْلُهَا
أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ
نَهَاراً
فَجَعَلْنَاهَا
حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ
بِالْأَمْسِ
كَذَلِكَ نُفَصِّلُ
الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
[
يونس : 24 ]
قبل شرح الآيات لا بدّ
من توضيح معنى المثل .
أية
صغيرة إذا أصررت عليها انقلبت كبيرة وأية
كبيرة
إذا استغفرت منها انقلبت
صغيرة :
مثلاً في بعض الأحاديث
الشريفة
يقول عليه الصلاة
والسلام :
( لا صغيرة مع الإصرار،
ولا كبيرة مع استغفار )
أخرجه
الحارث عن أبي هريرة وعبد الله بن عباس
صغيرة تهلك ، وكبيرة لا
تهلك ، يبدو أن هناك تناقضاً ،
صغيرةٌ
ينجو صاحبها ، صغيرةٌ يهلك صاحبها ،
وكبيرةٌ تردي صاحبها
.
(
لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع استغفار
)
من عادتي أن أوضح هذا
النص بمثل :
طريق
عريض يقدر عرضه بستين متراً
عن يمينه وادٍ سحيق ،
وعن يساره وادٍ سحيق ، مركبة تمشي
على
هذا الطريق في الوسط ، لو أن قائد المركبة حرفة المقود
سنتيمتراً
واحداً ، وثبت هذا الانحراف ، واستمر هذا الانحراف
،
هذه المركبة مصيرها إلى
الوادي ، على أن الانحراف سنتيمتراً واحداً
،
لكن المركبة التي يحرف
فيها قائدها المقود تسعين درجة ، والطريق عريض
،
بإمكانه أن يعيد المقود
إلى ما كان عليه ينجو ، انحراف
سنتيمتر
أهلك إنساناً ، وانحراف
تسعين درجة أنجاه .
(
لا صغيرة مع الإصرار )
أية صغيرة إذا أصررت
عليها انقلبت كبيرة ، وأية كبيرة إذا استغفرت
منها
انقلبت صغيرة ، فهذا
المثل يوضح هذا الحديث ، أحياناً يأتي الحديث متعلقاً
بمجردات
لقضايا معنوية ، لقضايا فكرية ، قد تبدو شائكة ، عويصة ،
غير
مفهومة ، يأتي المثل فيوضحها .
ضرب
الأمثال أسلوبٌ أصيلٌ في اللغة التي أختارها الله لقرآنه الكريم
:
الأمثال مألوفة بالأدب
العربي ، مثلاً : من يَهُنْ يسهل الهوان عليه
،
كيف ؟ قال : ما لجرح
بميت إيلام ، من يهن ، من يألف الهوان ،
يسهل
عليه أن تهينه دائماً ،
كيف
أوضح هذه الحقيقة ؟
إنسان
مات مهما جرحته وبالغت في الجرح لا يتألم ، لأنه ميت ،
والله
عز وجل وصف أهل الدنيا بأنهم :
{
أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ }
[
النحل : 21 ]
وصفهم بأنهم في القبور
:
{
وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ
}
[
فاطر : 22 ]
في قبور شهواتهم ، من
يهن يسهل الهوان عليه ،
ما لجرح بميت إيلام
إنسان
مدح النبي عليه الصلاة والسلام ،
( قال : إن تفق الأنام
فأنت منهم .
إنما
أنا بشر، أرضى كما يرْضى البشر،
وأغْضَبُ
كما يغضب البشر )
أخرجه
مسلم عن أنس بن مالك
إن تفق الأنام ، تتفوق
على كل البشر فأنت منهم ،
قال : فإن المسك بعض دم
الغزال ، المسك يؤخذ من دم الغزال ،
محمد بشر وليس كالبشر ،
كيف ؟ احترنا ، بشرٌ وليس كالبشر ،
قال
: فهو ياقوتة والناس كالحجر .
وإذا
أراد الله نشـر فـضيلـةٍ
طويت أتـاح لها لسـان حسودِ
لولا
اشتعال النار فيمـا جاورت
ما كان يُعرف طيب عرف العودِ
فضرب الأمثال أسلوبٌ
أصيلٌ في هذه اللغة التي أختارها الله
لقرآنه
الكريم ، ضرب الأمثال منهجٌ وأسلوبٌ
أصيلٌ
لهذه اللغة العربية التي
جعلها الله جلّ جلاله لغة لكلامه .
الماء
سبب لنمو النبات وجعل الأرض ذات بهجة
:
آية اليوم
:
{
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ
مِنَ السَّمَاءِ }
[
يونس : 24 ]
ماء السماء منعش ، مسعد،
مفيد، ضروري،
{
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ
مِنَ السَّمَاءِ }
ماءٌ عذب زلال ، ماءٌ
صافٍ ، ماءٌ مفيد ، ماءٌ منعش ،
{
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ }
[
يونس : 24 ]
عندما
تسرب هذا الماء إلى باطن التربة ، في التربة بذور ،
نبتت
هذه البذور وأصبحت نباتاً رائعاً ، أصبحت ذات بهجة ،
جبل
أخضر جميل جداً ، البستان جميل ، الحدائق جميلة ،
النبات
بالأصل جميل ،
{
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ
مِنَ السَّمَاءِ
فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَبَاتُ الْأَرْضِ }
[
يونس : 24 ]
أي هذا الماء أصبح سبباً
لنمو النبات ، أصبحت الأرضُ بهذا
النبات
ذات بهجة ، هذا النبات
:
{
مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ
}
[
يونس : 24 ]
شيء من بديهيات العلوم
أن القمح يعد الغذاء الأول لبني البشر
،
بل يعد القمح الغذاء
الكامل ، لأن في قشرة القمح عدداً كبيراً من المعادن
،
البوتاسيوم ، الصوديوم ،
المغنيزيوم ، السيلكون ، كل معدن يرمم
ويقوي
ناحية في الجسم ، وعدداً كبيراً من الفيتامينات ،
كل
هذه الفيتامينات وهذه المعادن مودعة في قشرة القمح ،
والإنسان
بجنون البشر ينزع هذه القشرة ويرميها للدواب
،
ويأكل نشاء صافياً ،
الخبز الأبيض نشاء فقط ، كل الخير ،
والدعم
، والفيتامينات ، والمعادن ،
كل
ما في القمح من فوائد في قشرة القمح ،
وقشرة
القمح لا تزيد عن أربعة عشر بالمئة من وزن القمحة
،
نحن في هذا العصر الحديث
نحب الخبز الأبيض الناصع ،
مع
أنه نشاء ليس غير ، بينما الخبز الأسمر في القشر
.
لذلك ما أكل النبي عليه
الصلاة والسلام في حياته
خبزاً من طحين منخول
بل
إن بعض العلماء يقول :
[ أول بدعة ابتدعها
المسلمون بعد وفاة رسول الله نخل الدقيق
،
أول بدعة.
]
لذلك
:
{
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ
مِنَ السَّمَاءِ
فَاخْتَلَطَ
بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ }
[
يونس : 24 ]
أي بستان جميل ، أرض
خضراء ، محاصيل رائعة ،
جنات
تجري من تحتها الأنهار ، هذا الماء اختلط بنبات الأرض
،
فنبات الأرض نما عن طريق
هذا الماء ،
{
مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ }
[
يونس : 24 ]
القمح
.
والغريب أيها الأخوة أن
ساق سنبلة القمح غذاء أول للحيوان
كيف أن القمح مادة
غذائية كاملة ؟
سوق
سنبلات القمح مادة غذائية
كاملة للحيوان
كيف
أن الإنسان يكتفي بالخبز
كذلك
الحيوان يكتفي بالتبن ؟
هذا سوق القمح
،
{
مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ
}
[
يونس : 24 ]
لذلك يعد هذا المحصول
سوق سنبلات القمح بالتعبير الدارج التبن
محصولاً استراتيجياً
لإطعام الحيوانات .
الإنسان يظن أن الماء
موجود ، التربة خصبة ، فالنبات يزدهر ،
والقضية
سهلة ،
{
حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا
}
[
يونس : 24 ]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق