رغم
قساوة الزمن قديماً فلا مكان لعاطل في البيت
..
جيل
عانى من شظف العيش..!
مع
بزوغ الفجر يستعد جميع من يستطيع العمل من أهل القرى
والبلدات
قديماً للسعي في طلب الرزق، فيشمرون عن سواعدهم
ويتركون
النوم من أجل هذه الغاية، فالجميع يستعدون للعمل منذ الصباح
الباكر
إيمانا بمقولة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم
(
اللهم بارك لأمتي في بكورها )
فبعد
أداء صلاة الفجر جماعةً في المسجد يتفرق الجميع لأداء
أعمالهم
فهذا
يذهب إلى حقله من أجل إرواء مزروعاته،
بينما
يشق جيرانه وأفراد البلدة طريقهم في أعمالهم من الرعي والبناء
وبقية
الحرف من أجل تأمين لقمة عيش كريمة لهم ولمن يعولون،
فالكل
يعمل بكد وجد من الصباح الباكر إلى غروب الشمس ولا يرون في ذلك
بأساً،
بل يقابلون ذلك العمل الشاق بابتسامة رضا.
ورغم
قساوة العيش وشظفه فلم يكونوا يتذمرون بل يرون أن
همهم
واحد وأن هذه هي
المقادير التي كتبت عليهم وهم يعيشونها
برضا
نفس شاكرة، وضرب هؤلاء
الأجداد أروع الأمثلة في التضحية في ذلك
الزمان
الغابر الذي سبق توحيد المملكة ،
ولم
يكن أحد يتذمر من ضيق ذات اليد بل كان الناس في ذلك سواسية فهمهم
واحد،
بينما انتشر في عصرنا الحاضر مصطلح ( البطالة )
خاصة
بين الشباب وهي تعني وجود شخص قادر على العمل ويبحث عنه
بجدية
لكنه لا يستطيع الحصول على وظيفة تعينه على أعباء الحياة،
وعلى
الرغم من أن طالب العمل لديه من التعليم والثقافة
ما
يعينه على تقبل أي وظيفة تناسبه إلا أن العدد في
ازدياد..
وبالنظر إلى الماضي
القريب وتتبع حياة جيل الكفاح نجد أنه لم
يكن
هناك شخص عاطل عن العمل
بل الجميع يسارع للانخراط في أي عمل
شريف
حتى ولو كان فيه المشقة والتعب لأن في ذلك سداً لحاجياته
الضرورية
التي تبعده عن الحاجة إلى الناس ولو كانوا أقرب
الأقربين.
لقمة
العيش
وكان
جميع أفراد الأسرة صغاراً وكباراً فيما مضى يعملون
من أجل
تأمين لقمة العيش لهم حيث يشترك الجميع في الأعمال اليومية
الشاقة
والمتعبة، فعلى سبيل المثال يتولى الأب العمل خارج المنزل
في أي
مهنة حرفية تتوافر لدية كأعمال البناء أو الفلاحة أو الصناعة
ويمضي
يومه في العمل بينما تقوم النساء بالعمل داخل المنزل
وذلك
بالتنظيف والطبخ والغسيل ومتابعة شؤون المنزل،
وقد
تخرج لتحضر الماء من البئر أو احدى المزارع في قدر تحمله
على
رأسها، أما بقية الأبناء فان الكبير منهم يرافق والده
للعمل
إذا كان عمره يتجاوز عشر
سنوات فيعمل معه ويتعلم كي يضمن لنفسه
حرفة
تعينه على الاعتماد على نفسه وتكوينها والعمل على بناء أسرة
والزواج،
أما الأطفال الصغار فإنهم يبقون في البيت لمساعدة الأم أو
للعناية
بأخوتهم
الصغار في حال غياب الأم في سبيل تأمين احتياج البيت من الماء
والحطب
وما شابه ذلك، وكان الجميع في البيت كخلية نحل فلا
وجود
لمن لا يعمل مهما كان
عمره، وقد كانت معظم البيوت تحوي
(أحواشاً)
تربى فيها الماشية من
غنم وبقر فكان كل بيت يعتمد على الماشية
في شرب
الحليب والاستفادة من المواليد لتربيتها لتتكاثر من أجل بيعها
والحصول
على المال .
طبيعة
الأعمال
وتختلف
طبيعة الأعمال باختلاف الأعمار لذا فليس هناك شخص
لا
يعمل فحتى كبار السن ممن بات لا يقوى على الأعمال البدنية
الشاقة
فانه يتوجه إلى سوق
القرية من أجل البيع والشراء وان كان محدوداً
وضيقا
فتراه يحمل شيئاً من محصول مزرعته إلى السوق وذلك بواسطة
عربة
تجرها الحيوانات أو يحمل ما لديه من محصول على ظهره
إن كان
خفيفاً ولا يملك عربة، ويقوم ببيعه على مرتادي السوق،
وقد
يعمل في إحدى المهن اليدوية التي تتطلب الصبر والمكوث وقتاً
طويلاً
كحياكة
( البشوت ) أو عمل الحبال ب ( الفتل) من ليف النخل،
أو
يكتري محلاً صغيراً يزاول فيه البيع والشراء بما يتوافر في السوق
ويحتاجه
الناس على قلة معروضاته،
أما
الصغار فيذهب من هو في سن التعليم إلى الكتاتيب على بساطة
التعليم
فيها
ومن ثم يعودون إلى منازلهم لمساعدة أهلهم في متطلبات
المنزل،
بينما ينهمك الشباب
والآباء في عدد من الأعمال التي جلها حرفية ومهنية
يحصلون
فيها على أجر يعينهم للصرف على أنفسهم ومن يعولون
،
وتتغير هذه الأعمال في
كل فترة حسب متطلبات العمل فمرة ترى المرء
ينخرط
في أعمال البناء فإذا انتهى العمل توجه إلى أي عمل متوفر
من رعي
أو زراعة أو حفر آبار وغير ذلك.
ثقافة
العيب
لم تكن
ثقافة العيب في العمل موجودة في ذلك الزمن طالما أنه عمل شريف
فالكل
يبادر إلى العمل البدني المرهق وفي أماكن عدة يأنف البعض
من
التواجد فيها، وكذلك بعض المهن كالنجارة أو الحدادة أو ( القصابة
)
وهي
بيع اللحوم، فقد كان المهم هو سد الفاقة والجوع بأي عمل شريف،
ولم
يكن الناس يجدون في ذلك عيباً فقد كان العيب في وجود
شخص
لا يعمل ويعيش متكففاً
على الناس وعالة عليهم، لذا لا غرابة
في أن
ترى الشخص يبادر إلى العمل وان كان مرهقاً لم يتعود عليه
بعد أن
كان فيما مضى من أصحاب الأموال والجاه والنعمة والثراء فاضطرته
ظروف
الحياة وتقلب الزمان إلى البحث عن عمل وان كان شاقاً،
وقد
حفظ لنا التاريخ العديد من القصص ومنها أن هناك عدد من الشباب
الذين
يتمتعون بالثراء ، فلما اضطرتهم ظروف الحياة وتقلبات الزمان
إلى
العمل لكسب قوتهم بادروا إلى البحث عن
العمل
ولم يجدوا الا عملاً
مرهقاً ألا وهو ( الكدادة ) وهي حرث
الأرض
وسقي المزروعات والعناية
بها من أول النهار إلى آخره فلما رأى
أحد الشعراء ما آلوا
اليه من تغير وتحول من حياة الترف إلى حياة الكد
والشقاء
الحرف
اليدوية
وكانت
معظم المهن وخاصة اليدوية والحرفية تتطلب جهداً كبيراً من
مزاولها
وتأخذ
من وقته وجهده وصحته الشيء الكثير،
ولكن الحاجة هي التي
ألجأت الكثيرين إلى بذل الجهد والتحمل،
ولم
يكن أمام هؤلاء الا التحلي بالصبر ورحابة الصدر
وكمثال
على هذه المهن الشاقة نورد مهمة ( الكدادة ) التي هي أكثر المهن
شيوعاً
لحاجة الناس إليها في كل بلدة وقرية حيث إنها هي السبيل الوحيد
لتحقيق
الاكتفاء الذاتي من الطعام حيث لم يكن الناس يعرفون الواردات
من
الخارج فكل يأكل مما يزرع أو يشتريه من الفلاحين، على أن زراعة
المحاصيل
تكاد تنحصر في نوعين فقط وهما التمر والقمح وقليل جداً
من
الخضروات، وكانت المزارع قليلة جداً وذلك لصعوبة توفير
الماء
لري المزروعات حيث يتطلب
ذلك قدرة مالية لمن يريد أن ينشئ مزرعة
اذ لا
بد له من حفر بئر إلى عمق يبلغ حوالى عشرة أمتار
مما
يستلزم الاستعانة بعمال يحفرون ومن ثم ببنائين يبنون جوانب البئر
بطريقة
( الطي ) وهو يحتاج إلى بنائين مهرة يقومون ببداية بناء طي البئر
من
المنطقة الصخرية في أسفل البئر إلى أعلاه بطريقة الرص الدائرية
أو
المربعة بحيث يمنع هذا الطي انهيار جدران البئر فيها ويضمن تماسك
جدرانها
لمئات السنين، ولازالت العديد من الآبار موجودة
وباقية
إلى يومنا هذا، وكانت
النساء فيما مضى لا يرغبن في الاقتران
بصاحب
مزرعة و( كدادة ) رغم أنه يضمن لها الشبع بما لديه
من
ثمار متوفرة طوال العام وذلك لصعوبة عمله وشقائه طوال اليوم
وانهماكه
في العمل كما أن العمل أحياناً يستوجب أن تشارك المرأة زوجها
في
العمل في الحقول لحصد المحاصيل وجني الثمار.
وعلى
الرغم من شظف العيش والتعب الذي يصيب الناس في أعمالهم
المرهقة
الا أن ذلك لم يصاحبه تبرم أو تضايق من أحد فالكل كان
راض
بما قسمه الله له ويقابل
ذلك بالشكر، وعاش ذلك الجيل شاكراً مرفوع الرأس
ولم
يركن إلى الكسل أو انتظار الاحسان من أحد ولو كان أقرب قريب،
بل
تعدى ذلك الأمر إلى توجهه إلى البحث عن الترفيه عن نفسه فترى
صاحب
المزرعة يردد الأهازيج خلال عمله، وبعد صلاة المغرب إلى أن يحين
وقت
صلاة العشاء يخصص البعض ذلك الوقت لتبادل أحاديث السمر وشرب
القهوة
في منزل جار أو صديق، ومن الأمثلة على الرضا بما كان فيه ذلك
الجيل
من مسغبة وجوع وفاقة وفقر فقد حدث أن زوج رجل موسر ابنته
من شاب
من قرية مجاورة قريبة له وبعد فترة من الزمن سار إلى بيت ابنته
لزيارتها
فلما طرق عليها الباب فتحت له فرحبت به
وأجلسته
في غياب زوجها وأخذ يسألها عن حالها وحال
زوجها
والذي كان اسمه (سليمان)
وأحوالهما المعيشية فحمدت الله على
النعمة
ولم تخبره عن شدة فقر
زوجها الذي اضطرها للعيش معه على أقل الكفاف
وبدا
ذلك واضحاً له من عدم مبادرتها للقيام بإكرامه فطلب منها أن تحضر
له
ماءً
ليشربه فلما غابت عنه قام متجولاً في البيت فلم يجد فيه ما
يؤكل
فضاق صدره مما رأى من
شدة وفقر فقال بيتاً من الشعر :
مستاثم
في فار داره سليمان
من دق
فقره مالقا شي يذوقه
وقفل
راجعاً إلى قريته فحمل على دابة له الكثير من ( الأرزاق )
كالدقيق
والتمر
والسمن وعاد بها إلى بيت ابنته وأعطاها إياها وقال بأن ذلك
هدية
منه لها ولزوجها، ولا زال يتعهدها بالمؤن حتى فتح الله على زوجها
بمثابرته
في عمله وطلبه للرزق وصار من ميسوري الحال.
الغربة
مما
كان يقلق الكثيرين من طالبي العمل هو عدم حصولهم على من يرغب
في
الاستعانة بهم في عمله مقابل أجر يقتاتون به هم وأهل بيتهم،
ويعني
ذلك بقاءه عاطلاً عن العمل رغم قوته واستعداده له مما يجعله
يعاني
الجوع والعوز هو وأسرته، مما حدا بهم إلى التفكير بالتغرب
عن
الأهل والأوطان لطلب الرزق ولو كان في بلاد بعيدة متذكرين
قول
الشاعر :
تَغَرَّب
عَنِ الأَوطانِ
في طَلَبِ العُلى
وَسافِر
فَفي الأَسفارِ خَمسُ فَوائِد
تَفَرُّيجُ
هَمٍ وَاِكتِسابُ مَعيشَةٍ
وَعِلمٌ
وَآدابٌ وَصُحبَةُ ماجِدِ
فَإِن
قيلَ في الأَسفارِ ذُلٌّ وَغٌربَةٌ
وَقَطعُ
فَيَافٍ وَاِرتِكابِ الشَدائِدِ
فَمَوتُ
الفَتى خَيرٌ لَهُ مِن حَياتِه
بِدارِ
هَوانٍ بَينَ واشٍ وَحاسِدِ
وبالفعل
فقد سافر الكثير منهم إلى مشارق البلاد ومغاربها في سبيل
طلب
العيش والتجارة واستطاعوا بعصاميتهم أن يقوموا بالعديد من
الأعمال
وتحصيل
أجور كبيرة فعاد الكثير منهم ممن حالفه التوفيق إلى
بلده
رافع الرأس بما حصل عليه
من مال صار يكفيه طوال العام ويزيد
وعاش
حياة كريمة واستطاع البعض منهم أن ينمي رأس ماله في
بلده
ومن لم يستطع عاد إلى
التغرب مرة أخرى للحصول على المال،
بل تعدى الأمر ذلك إلى
تمرس العديد من المغتربين مهناً جديدة
عليهم
لم يكونوا يألفوها أو
يعرفون أبجدياتها مثل مهنة الغوص لاستخراج اللؤلؤ
حيث
إنهم لم يروا البحر في حياتهم أصلاً أو يعرفون الغوص
ولكن
مع الإصرار والعزيمة والحاجة برزوا في ذلك حتى صار يتسابق عليهم
أرباب
العمل في الغوص من ( النواخذة ) لمهارتهم في ذلك وإخلاصهم
في
العمل وخاصة من منطقة ( نجد ) والذين خلدت
مؤلفات
كتب الغوص
أسماءهم.
جيل
البطالة
واليوم
الملاحظ لحال الناس يرى مدى التغير الذي نعيشه اليوم والرفاهية
التي
عمت الجميع في هذا الزمن، مما وفر لكل شخص يعيش على هذا الثرى
حياة
كريمة حيث توفرت الوظائف المريحة وتعددت وحظي جيل اليوم
بفرصة
الالتحاق في المدارس وأرقى الجامعات التي أنشأتها الدولة أيدها
الله،
مما
وفر للجميع فرصة الحصول على عمل في أي تخصص يرغبه،
ولكن
ثمة أشخاص بات همهم الحصول على وظيفة سهلة وميسرة ومريحة
وخاصة
في القطاع الحكومي وهو مالا يمكن تحقيقه للجميع فسوق العمل
مفتوح
في كل قطاع وخاصة القطاع الخاص ولكن البعض يفضل البقاء عاطلاً
على أن
ينخرط في تلك الأعمال وذلك بحجة أن العمل فيها مرهق والأجر
زهيد،
على أن الكثير من الخريجين استطاع بجده ومثابرته أن
ينخرط
في العمل بالقطاع الخاص
ويثبت وجوده والتزامه مما جعله يرتقي وظيفياً
ويتبوأ
أكبر المناصب القيادية ويحقق دخلاً عالياً، والبعض الآخر اتجه
للعمل
في
الأعمال الحرة وخاصة التجارية وأثبت وجوده
ومهارته
وبنى لنفسه مؤسسات بل
شركات مما يذكرنا بجيل العصامية في الماضي
القريب،
الأمر الذي يستوجب النظر من قبل العاطلين الذين يمتنعون
من
الانخراط في أي عمل مهما كان أجره زهيداً ولو كان مؤقتاً لينفضوا
عنهم
الكسل وليحموا أنفسهم من الوقوع في مستنقع
البطالة
التي تجعلهم عالة على
غيرهم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق