قرأنا القرآن.. وكثيرا نرى مشاهد في القرآن مكررة؛
من ذلك قصة أبوينا آدم وحواء عليهما السلام، وهما في الجنة،
ومحاورتهما مع ابليس، ثم مع الله عز وجل، ثم محاورة ابليس مع الله عزوجل،
ثم ختام المشهد بنتيجة لكل من الفريقين؛
فريق آدم وذريته وفريق إبليس وذريته، وقد وقفت متأملا أسرار
المشهد العجيب المؤثر الذي يُبرز أصول الفريقين، وطبائعهما،
وأسلوب تفكيرهما، وخصائصهما،
فمن ذلك:
١- أصل خلقهما ودلالاته وطبيعته، فأصل خلق آدم وزوجه الطين وهو
طاهر نظيف وبالمقابل تعتريه التغيرات والتحولات التي تجري على
طبيعة الطين والتراب؛ لكنه يمنح هذا الأصل النظافة والطهارة ولذا
جعله الله محل التقدير والتكريم فنفخ فيه من روحه وأمر الملائكة
بالسجود له لطهارة الأرض وسمو الغاية، لكن هذا الأصل الطيني ذو
مرونة وتأثر، فكما ضعفت النفس وغلبها الهوى حضرت دواعي
الطهارة والنظافة فاعترفت، وهذا ما حصل لأبوينا عليهما السلام،
بخلاف طبيعة إبليس التي جعلته مستشهدا بها على خطيئته وهو
وقود للكبر والشر )الطبيعة النارية( ومع ذلك استدل بها على الله،
ولم يستدل لها للقرب والتوبة.
٢- مداخل التأثير )التملك – الشهوة( يلاحظ أن المدخل الأكبر الذي
دخل به إبليس لأبوينا هو دافع حب التملك وحب الخلود وهما دافعان
فطريان لدى الإنسان، فطمعا بذلك واقترفا المحظور مع إبداء
النصح الظاهر من العدو الأكبر )إني لكما لمن الناصحين(،
لكنهما سرعان ما بان لهما عورة الخطأ بفضل اعتلال الأص
)الطهارة(.
٣- الإيمان )حساس( وذو استشعار؛ تؤثر فيه الخطيئة بمجرد القرب
والذوق الاولى، ولذا في القرآن
{ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا }
فكأن الإيمان كشاف ضوء في الظلام، ونهر جار في الصحراء! فهل
يمكن سير الإنسان بالظلام بدون نور، وفي الصحراء بدون ماء!
كذلك الإيمان في الحياة.
٤- أصل الحرمان (الكبر) اعتمادا على أصل خلقي أو مادي وهذا
خطير لانه ليس كسبيا، إضافة إلى ان العطاء القدري اختباري؛
ولذا احتج ابليس بالقدر لخطيئة عدم السجود بينما آدم لم يحتج
بالقدر لتصحيح خطيئة الأكل، وهذا جزء من الإيمان الجميل ظهر
بحسن التعامل مع اختيارات المخلوق إزاء أقدار الرب، ومعظم
من يقعون بالخطايا ويبررون لخطئهم «عقليا» إنما يستشهدون
بالقدر لهم لا عليهم، بينما بمطالب الرزق والجاه وغيرها لا
يذعنون لمواقع القدر، بل يغالبون الحياة.
٥- سمو الحوار بين الله عز وجل، وابليس، فرغم ردوده واستكباره
استمر الحوار، وحجته الاحتجاج بأصل خلقه، ومع ذلك لم يصادر
الله حقه بالحوار حتى تبين لإبليس الأمر وظهرت حجته الضعيفة،
وهذا درس عجيب
(اجعل مساحة للحوار حتى مع أعدى أعدائك)
فالحياة جمالها بالعدل والفضل، وعماد ذلك الكلام ومناقشة الأمور
وهو حق مشاع للكل.
وبالمقابل تأمل سمو الحوار في الجهة الأخرى، المملوء بالعتب للأبوين
{ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ }.
٦- جمال التغيير الإيجابي، ويتم ذلك عبر أسلوب (التوبة) والتي مرت
بعدة مراحل:
الشعور، ثم الاعتراف، ثم التصحيح، وتم ذلك بهدوء ودون لجاج
أو خصومة أو تحطيم وغيرها
{ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
فكانت النتيجة
{ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ }.
٧- ان الأخطاء فردية كانت او جماعية تكشفك للعدو
{ فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا } ..
{ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ }
والوقوع بالخطأ ليس عيبا لكنه يضعف القلب والبدن والخطأ الاكبر الاستمرار عليه،
فهو يكشفك للعدو وتضعف المناعة والحماية،
وسقوط الفرد أو المجتمع أو الدولة ليست بقوة عدوه، بل بضعفه
هو أو هم؛ ولذا كانت نهاية المشهد لآدم وذريته
{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ
التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ }.
و
{ يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ
عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا }.
قصة آدم والشجرة.. لم تكن مجرد موقف عابر.. إنه مشهد الطبيعة
البشرية في ظل تعرجات الحياة ومع أنواع الابتلاء..
فنجح الأبوان
في الرجوع لجنان الخلد الحقيقية.. وذلك الاختبار مستمر مع ذريته..
والنجاح حليف من تفيأ طريقهما.. عليهما السلام.
جعلني الله وإياكم منهم.
د. عبدالعزيز الأحمد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق