من محاسن ديننا العظام
( دفع الضرر والإضرار بالنفس والآخرين ) فإن الكلمةَ الجامعةَ
المُختصرَة التي يُمكن أن تُوصَفَ شريعةُ الإسلام بها هي:
أنها جاءَت لتحقيقِ المصالِح ودرءِ المفاسِد، أو فَتحِ أبوابِ الخير،
وإغلاق أبوابِ الشرِّ في العقيدةِ، والتشريعِ، والخبَر، والإخبار،
ولا تدَعْ ضرورةً من الضَّروراتِ الخَمسِ التي أجمعَ الناسُ عليها إلا
سعَت إلى تحقيقِ المصلَحة فيها، ودَرء المفسَدَة عنها، في ضرورةِ
الدين، وضرورةِ النفسِ، وضرورةِ العقلِ، وضرورةِ المالِ، وضرورةِ العِرضِ.
تدعُو إلى النفعِ فيهنَّ، وتحُضُّ عليه، وتمنَعُ الضَّررَ والضِّرارَ فيهنَّ
بدَفعهما قبل وقوعِهما، أو برَفعهما بعد الوقوعِ، والدَّفعُ في شريعتنا
الغرَّاء أولَى من الرَّفع؛ فإن الوِقايةَ خيرٌ من العلاجِ.
وإنكم لن تجِدُوا أمرًا من أمور الدين والدنيا إلا هو راجِعٌ إلى أحد هذين
الأصلَين العظيمَين، ولما كان الضَّررُ والضِّرارُ خطَرَين عظيمَين،
ومفسدَتَين ظاهِرتَين أحاطَتهما شريعتُنا بسِياجٍ منيعٍ يحمِي الأمةَ –
فردًا وجماعةً – من الوقوعِ في شَرَكِهما، أو الالتِياثِ بعَدواهما.
لذلكم جاء من مِشكاةِ النبُوَّة ما يدُلُّ على منعهما، والنهيِ عن
مُقاربَتهما، فضلًا عن الوقوعِ فيهما.
فعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ – رضي الله تعالى عنه -، أن رسولَ الله –
صلى الله عليه وسلم – قال:
( لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ )؛
رواه ابنُ ماجه والدارقطنيُّ وغيرُهما.
قال أبو داود صاحبُ السنن:
إن هذا من الأحاديثِ التي يدُورُ الفِقهُ عليها.
وقد ذكرَ بعضُ أهل العلمِ أن هذا الحديثَ رُبع الفِقهِ.
وقال آخرون: إنه نِصفُ الفِقهِ، وهو أقربُ الأقوال إذا قُلنا: إن الدينَ
إما أن يكون في جَلبِ منفَعةٍ – وتلك هي المصلَحة -، وإما أن يكون في
دفعِ مضرَّةٍ أو رَفعها – وتلك هي المفسَدة -، والدينُ أمرٌ ونهيٌ؛ فالأمرُ
في المصالِح، والنهيُ في المفاسِد،
{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي
كَانَتْ عَلَيْهِمْ }
[الأعراف: 157].
لقد نفَى النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – في حديثِه ذلكم الضَّررَ والضِّرارَ،
وهو ليس نفيًا لوُجودِهما؛ فإن الواقِعِين فيهما من أمَّتِه- صلى الله عليه
وسلم – كثيرٌ، غيرَ أن النفيَ هنا نفيٌ للإقرارِ على إيقاعِه، ونفيٌ للإقرار
ِ به بعد وُقوعِه؛ ليكون النفيُ والنهيُ شامِلَين الضَّررَ والضِّرارَ بكلِّ
معانِيهما وأحوالِهما على مُستوَى الفردِ والمجمُوعِ.
فالضَّررُ – عباد الله – هو ما كان دُون قصدٍ، والضِّرارُ هو ما كان عن
قصدٍ، ويستَوِي في ذلكم المنع الضَّررُ والضِّرارُ بنفسِه أو بغيرِه، غير
َ أن الضِّرارَ بالغيرِ أعظمُ جُرمًا، وأكبرُ خطيئةٍ،
{ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ }
[الطلاق: 6].
ومن هنا اتَّفقَ أهلُ العلمِ قاطِبةً على قاعدةٍ مشهُورةٍ كُبرَى، تُعدُّ قِوامًا
في الفِقهِ وحفظِ الشريعة، وهي قاعِدةُ: الضَّررُ يُزال.
أجل .. عباد الله، الضَّررُ يُزال، الضَّررُ ممنوعٌ كلُّه، والضِّرارُ ممنُوعٌ
كلُّه، فإذا تحقَّقَ أحدُهما أو كِلاهُما في أمرٍ وجَبَ إزالتُه إن وقَع، أو
دَفعُه قبل أن يقَع.
وقد رتَّبَ الشارِعُ الحكيمُ الأجرَ والمثُوبةَ على ذلكم، كما قال النبيُّ –
صلى الله عليه وسلم -:
( وتُميطُ الأذَى عن الطريقِ صدقةٌ )؛
متفق عليه.
وهذا يعُمُّ كلَّ أذًى، وكلُّ أذًى ضررٌ صغيرًا كان أو كبيرًا، قاصِرًا كان أو مُتعدِّيًا؛
فقد صحَّ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنه
( نهَى أن يُتعاطَى السَّيفُ مسلُولًا )؛
رواه أبو داود والترمذي.
والمعنى: نهَى عن تناوُلِ السَّيفِ غيرَ مُخبَّئٍ في غِمده؛ حتى لا يجرَحَ
مَن تناوَلَه.
وقد مرَّ رجُلٌ بسِهامٍ في المسجِدِ، فقال له رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -:
( أمسِك بنِصالِها )؛
متفق عليه.
أمرَه أن يُغطِّيَ رُؤوسَها؛ حتى لا تجرحَ أحدًا مِن المارَّة دُون قصدٍ.
وقد قال أيضًا – صلواتُ الله وسلامُه عليه -:
( مَن أشارَ إلى أخِيه بحديدةٍ فإن الملائِكةَ تلعَنُه، حتى وإن كان أخاهُ
لأبِيهِ وأمِّه )؛
رواه مسلم.
فانظُروا كيف جاءَت تلكُم النواهِي عن تناوُلِ السَّيفِ مسلُولًا، والإشارةِ
بالحَديدةِ في وَجهِ المُسلم، فكيف بما هو أعظمُ من ذلكُم مِن اقتِتالِ
المُسلمين، وإهراقِ دماءِ بعضِهم بعضًا بغير وَجهِ حقٍّ، وإيذاءِ بعضِهم
بعضًا، ومُضارَّة بعضِهم بعضًا بالمَكرِ، والحِقدِ، والحسَدِ، والبَغيِ، والغِيبةِ،
والنَّميمة، والهَمزِ، واللَّمزِ، والشَّحناء، والبَغضاء، وأكلِ بعضِهم أموالَ
بعضٍ، ومُضارَّتهم في دينِهم وأعراضِهم وعقولِهم.
وقد قال مَن أُوتِيَ جوامِع الكلِم – صلواتُ الله وسلامُه عليه – عن ذلكُم كلِّه:
( مَن ضارَّ مُسلِمًا ضارَّه الله، ومن شاقَّ مُسلِمًا شقَّ الله عليه )؛
رواه أبو داود والترمذي، وحسَّنه.
والمعنى: أن الجزاءَ مِن جنسِ العملِ.
وقد حرم الإسلام الأذيّة بكل أشكالها : وهل الأذِيَّةُ إلا ضررٌ وضِرارٌ؟!
{ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا
بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا }
[الأحزاب: 58].
وقد قال – صلواتُ الله وسلامُه عليه -:
( كلُّ المُسلم على المُسلم حرامٌ؛ عِرضُه ومالُه ودمُه، التقوَى ههنا،
بحسبِ امرِئٍ مِن الشرِّ أن يحقِرَ أخاه )؛
رواه مسلم.
وفي الصحيحين : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:
( سِبابُ المُسلم فسُوقٌ، وقِتالُه كُفرٌ ).
ألا وإن مِن سماحةِ الإسلام وعَدلِه ألا يدفعَ الضَّررَ بضررٍ مِثلِه،
ولا بضررٍ أعلَى منه، ولا المُنكَر بمثلِه، ولا بأنكَرَ منه، وإذا ما تزاحَمَت الأضرارُ
في الأمرِ الواحدِ فيُرتكَبُ الضَّررُ الأصغرُ لتَفوِيتِ الضَّررِ الأكبَر، وهذا
مِن تمامِ الحِكمةِ والعَدلِ والمنطِقِ، مثلما أنه ينبَغي تحصِيلُ اعلى النَّفعَين،
فكذلك ينبَغي درءُ أعظم الضَّرَرَين.
فضيلة الشيخ الدكتور سعود بن إبراهيم الشريم
المصدر :
https://www.assakina.com/alislam/100747.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق