أ. عائشة الحكمي
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أبلغ من العمر 20 عامًا، مشكلتي أنِّي انطوائية لأبْعد الحدود،
سواءٌ مع مجتمعي في الخارج أم مع أهلي في المنْزل؛ أتناول
وجباتي وحدي، وأرفض الخروج من المنْزل للزيارة أو للتسَوُّق،
وأحيانًا أرفض حتى الخروج للتنَزُّه والتَّرْويح عن النفس،
حتى إنِّي منذ سنَة تقريبًا لَم أَرَ أقاربي ولم يروني.
هذه المشكلة أعاني منها منذ فترةٍ ليست بالقصيرة، إلاَّ أنني ما لجَأْتُ
لكتابتها هنا إلاَّ بعد أنْ أردتُ كتابةَ سيرةٍ ذاتيَّة عن نفسي، فلم أجد أيَّ
إنجاز أو أي شيء يستحِقُّ أن يُسَجَّل، وقد أتتني فُرَص كثيرة للعمل في
مجالات أحبُّها وأنا على معرفة جيِّدة بها، وكنت جِدَّ متحمِّسة لها،
إلا أنَّ انْعزالي وقَف حاجِزًا بيني وبينها.
لديَّ طموح ولديَّ هِمَّة، وأؤمن بقدراتي، وثِقَتي بأن أنجز شيئًا بمواهبي
المندَثِرة كبيرةٌ جدًّا، ولكنَّ انطوائي يقيِّدني بِقُوة، وأنا أكره أن
أرى مَن حولي يسير، بينما أقِفُ في نقطة البداية.
مَشُورَتَكم، لا حُرِمتم عطاءَ الكريم
الجواب
أختي العزيزة، حيَّاكِ الله.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
يعتبر تقسيمُ الشخصيَّة إلى:
انطوائيَّة ذاتيَّة، وانبساطية اجتماعية؛ وَفْقًا لنظرية د.كارل يونج -
هو التَّقْسيمَ الأكْثرَ شهْرةً وشيوعًا في باب الشخصية، ولعلَّ مِن أهَمِّ
اختبارات تقييم الشخصية المطبَّقَة في هذا المجال بِناءً على هذه النظرية:
اختبارَ مايرز بريجز Myers-Briggs Type Indicator.
وسواءُّ كان الشخص انطوائيًّا موجِّهًا طاقاته إلى الدَّاخل،
أم انبساطيًّا موجِّها طاقاته إلى الخارج، فلدَى كلٍّ منهما ما
يميِّزه وما يَعِيبه، ونحن هنا لا نطالب أحدًا بتغيير شخصيَّته أو
تَحْويلها إلى شخصيَّة أخرى، إنَّما ندعو كلَّ شخْص إلى تحقيق نوع
من التَّوازن بين مميِّزات شخصيَّته ومميِّزات الشخصيات الأخرى،
بحيث يحافظ على إيجابيات شخصيته ونِقاط قُوَّتِها، ويتخلَّص من
عيوب شخصيته ونقاط ضعْفِها، أو على الأقلِّ يَسْعى إلى التقليل منها قدْرَ المستطاع.
يَحْفُل التاريخ بأسماء المشاهير من أصحاب الشخصيَّة الانْطوائية
Introvert Personality، أمثالَ غاندي و ألبرت آينشتاين ،
وها أنْتِ تَرَيْن أنَّه برَغْم شخصياتهم الانطوائية إلاَّ أنَّهم لم يَكُونو
ا مغمورين على الإطلاق، بل بلغَتْ شُهرتُهم الآفاق؛ لأنَّهم قاموا
بتَوْجيه طاقاتِهم الإيجابيَّة لخدمة الآخرين، محافِظين على انطوائهم
الذاتي في التفكير والانتباه والتأمُّل، والاستقلال والكتابة،
وهو الأمْرُ الذي نريده لكِ أنتِ أيضًا؛ لتتمكَّني - بمشيئة الله -
مِن استخراج كنُوزِك الدَّفينة مِن داخلِك؛ فتستفيدي منها أنتِ أوَّلاً،
ويستفيد منها مُجتمَعُكِ ثانيًا.
أوَّلاً:
كوني على يقين بأنَّ الوقت الذي ستقضينه مع الناس مُهِم جدًّا بِقَدْر
أهمية الوقت الذي تقضينه بِمُفردك؛ فالاختلاط بالناس يَمنحك فرصةً
رائعة لِتَعلُّم شيء جديد، واكتساب خبْرةٍ في التعامل مع الآخرين،
وصَقْلِ شخصيتكِ ومواهبكِ، والأهمُّ من كلِّ ذلك أنكِ إنْ أصلحْتِ نيَّتَك
فستكسبين الأجْرَ العظيم مِن تحَمُّلك لمضايقات الناس وأَذاهم لكِ،
وهي النتيجة الطبيعيَّة مِن مُخالطة الناس للناس!
فعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - :
( المؤمن الذي يُخالِط الناس، ويَصْبِر على أذاهم، أعْظَم أجْرًا
من المؤمن الذي لا يُخالِط الناس، ولا يَصبر على أذاهم )؛
رواه ابن ماجه.
ثانيًا:
اعْملي على تكوين شبكَة من العلاقات الاجتماعية عبْر الانترنت،
من خلال التَّفاعل الاجتماعي مع الناس في المنتديات الإسلامية،
وغُرَف البالْتوك ، وصفحات فيس بوك ؛ إذْ لا يتِمُّ التفاعل هناك
وجْهًا لوجه - وهو الأمر الذي يَخشاه أصحاب الشخصية الانْطوائية -
إنَّما يتِمُّ التفاعل من خلال الكلمة المكتوبة المقرُوءة، أو المنطوقة المسموعة.
ثالثًا:
يجب أن تُدْرِكي أنَّكِ لسْتِ مضْطرَّةً على الإطْلاق للتعَرُّف إلى كلِّ
الناس في الخارج، إنَّما يكفيكِ فقَطْ أنْ تتعرَّفي على اثْنتين أو ثلاث
من الصَّدِيقات؛ لِضَمِّهن إلى قائمة الصَّدَاقة الحميمة؛ فقد قال بعضُ السَّلَف:
عليك بالإِخْوان، ألَمْ تسمَعْ قولَه - تعالى -:
{ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ }
[الشعراء: 100 - 101].
رابعًا:
اجْعلي الهاتف صديقَكِ المخْلِص، وبدلاً من مقاطعة النَّاس بالكلِّية
تواصلي معهم عن طريق رسائل الجوال النصِّية، ثم تقدَّمي قليلاً
إلى مَرْحلة الاتِّصال بهم أو الردِّ على اتِّصالاتهم، خصوصًا في المناسبات
الاجتماعية المهمَّة، كالتهنئة بالنجاح أو وِلادة طِفْل جديد
، أو قُدُوم رمضان أو العيد، ثم يمْكِنكِ بعد ذلك التقدُّمُ قليلاً بالالْتقاء
بأقرب الناس إليكِ عبْرَ استقبالهم في البيت، ثم بزِيَارتهم في بيوتهم، وهكذا.
تدرَّجِي دائمًا من الأسهل إلى الأصعب؛ حتَّى تعتادي
الأجواء الاجتماعية بيُسْر وسهولة.
خامسًا:
اكْسِري الحاجزَ النفْسِيَّ الذي يَحُول بينَكِ وبين الوظيفة من خلال
التقَدُّم لهذه المَجالات التي تَجِدين فيها المتْعَة، وتذَكَّري دائمًا
أنَّ المخاوِفَ الاجتماعية لا تُقتَل بتجَنُّبِها بل بِخَوضها.
سادسًا:
الشَّخْص الاجتماعي متحَدِّث جيِّد، ولديه القُدْرة على الكلام مع أيِّ شخص،
في أيِّ موضوع كان، وفي أي وقْت ومكان، بِعَكْس الشخص الانْطوائي،
الذي لا يُحْسِن مهارةَ الحديث والكلام، غيرَ أنَّه يتمتَّع بمهارة إصْغاء
واستماع عالية جدًّا، وكلُّ ما يحتاجه الشخص الانطوائي هو
التحَدُّث قليلاً في موضوعات محدودة مع قلَّةٍ من الناس.
سيكون من السهل أن تتكَلَّمي قليلاً إذا بادَرْتِ بطرح الأسئلة على
أيِّ شخص اجْتماعي، ولعلَّ أفْضل أنواع الأسئلة في هذا المجال:
تلك المتعلِّقَة باهتمامات الناس وسؤالِهم عن أنفسهم.
أنصَحُك بقراءة كتاب كيف تتحدَّث إلى أيِّ شخص في أي وقت وأي مكان؟
تأليف لاري كنج ، من إصدارات مكتبة جرير.
سابعًا:
ابتسمي؛ فالابتسامة لُغَةٌ معبِّرة، وتُغْنِي عن قول ألْفِ كلمة وكلمة،
إضافةً إلى كونِها تُضْفِي الجمال على الوَجنات، والثَّواب في
ميزان الحسنات؛ قال المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
( تبَسُّمك في وجْهِ أخيك لكَ صدَقة )؛
حسَّنه الألباني.
ثامنًا:
كافِئِي نفْسَكِ مكافأةً مُجْزية إذا نَجحْتِ في كسر أيِّ حاجز نفْسي
جَلِيدي يَحُول بينَكِ وبين رؤية الناس ومُخالطتهم؛ بُغْيةَ تحفيز
نفْسِك بنفسك للتقدُّمِ والاستمرار في بذْل الجهد إلى أنْ
تحقِّقي النَّجاح والإنجاز الذي أرَدْتِه لنفسكِ.
تاسعًا:
تبْقَى الأماني مُجرَّدَ أمانٍ، ما لَم يَمتلك المرء إرادةً إيجابيَّة لِقَهْر
المخاوف والمثبِّطات والصعوبات والعقَبات التي يواجِهُها
في الحياة وتَحُول بينه وبين تحقيق أمنياته.
وَلَمْ يَبْعُدْ عَلَى نَفْسٍ مَرَامٌ
إِذَا رَكِبَتْ لَهُ الْهِمَمَ البِعَادَا
وَلَمْ أَرَ بَعْدَ قُدْرَتِهِ تَعَالَى
كَمَقْدِرَةِ ابْنِ آدَمَ إِنْ أَرَادَا
ختامًا:
قال ابن القيِّم في كتابه مدَارج السَّالكين:
الضابط النافع في أمْر الخلطة: أن يُخالِطَ الناس في الخير؛
كالجمُعَة والجماعة والأعياد، والحجِّ وتعَلُّم العلم، والجهاد والنصيحة،
ويَعتزلهم في الشرِّ وفضُول المباحات، فإذا دعَت الحاجة
إلى خلطَتِهم في الشرِّ ولم يمْكِنه اعتزالهم: فالحذَرَ .
دُمْتِ بألْف خير، ولا تنسيني من صالح دعائك
منقول للفائدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق