كيف كان العرب يتكلمون العربية؟
في بعض الأحيان يكون المتخصّصون في العربية أكثر خطرا عليها
من العوام، ومنهم أولئك الذين يفتّشون كتب اللغة والأدب لينقلوا لنا أنّ
العرب كانوا تقريبا يُهملون الحركات ولا يتشدّدون فيها. فيأتي لنا أحدهم
بقول أبي العيناء: "ما رأيت مثل الأصمعي قط، أنشدَ بيتًا من الشعر فاختلس
الإعراب". وقول أبي عمرو بن العلاء "كلام العرب الدَّرج"، وقول ابن أبي
إسحاق: "العرب ترفرف على الإعراب ولا تتفيهق به"، وغيرها من الأقوال
التي يهدف الباحث من خلالها إلى التهوين من التشدّد في إعراب الكلمات
ونطق الحروف، وإنْ لم تكن تلك النصوص تعني ذلك. في الواقع هناك مشكلة
كبيرة مع هذا الطرح الذي يتذرّع بنصوص وردتْ عن أئمة اللغة حول
"كيف كان العرب يتكلّمون" للوصول إلى نتيجة مفادها التهوين من التزام
قواعد النحو في العربية، وذلك لعدة أسباب:
أولا: هذه النقول القليلة لا تفيد إهمال العرب للإعراب، بل تفيد أنّهم كانوا فيه
أقرب للعفوية ولم يكونوا يتنطّعون به كما يحدث عند بعض المتحدّثين. وليس
أدل على ذلك من أنّنا لو تتبعنا ما ورد من هذه النقول التي ذكرناها (وهي معا
في "البصائر والذخائر" لأبي حيان التوحيدي) سنجد قول الحسحاس
بن حباب: "العرب تقع بالإعراب وكأنها لم ترد"، مما يؤكّد -بالجمع بين
هذا القول وسائر الأقوال- على أنّ الأمر متعلّق بأسلوب النطق وليس بقواعد
اللغة والتهاون في الإعراب والدعوة إلى تسكين الحروف
فرارا من الحركات!
طُرق النطق التي وردت عن أئمّة اللغة؛ تختلف باختلاف طرق النطق عند
العرب بحسب لغاتهم ولهجاتهم، وقد نقلها الأئمة بأمانة علمية
كلٌّ عن مصادره، ولهذا اختلفوا فيها
ثانيا: يغفل هؤلاء أنّ هناك فرقًا بين العربية كلغة حديث وحياة يومية عاشت
لقرون قليلة بعد النبوّة، وبين العربية الفصيحة "الرسمية" التي هي لغة
الشعر والخطب والقرآن والأحاديث النبوية، وهذه الأخيرة هي التي يُرجى
بهذه الأجيال تعلّمها؛ فنحن لا نتعلّم العربية لنعرف كيف كانت شتى القبائل
تتحدث ولا لنعرف لغاتها الشاذة، بل هذا يدرسه المتخصصون لغايات بحثية،
أما تعلّم العربية فهو يرتكز على العربية "الرسمية" التي يُراد من تعلّمها
فَهم خطاب الله سبحانه وتلاوته وفهم خطاب رسوله -صلى الله عليه وسلّم-
في المقام الأول، إلى جانب فهم النصوص العربية الأصيلة التي وصلتنا؛
كالشعر والخطب المحفوظة وسائر كتب التراث العربي. ومن ثمّ يكون
التشديد على الإعراب وعلى مخارج الحروف أمرًا ضروريّا وليس شيئا
باعثا على السخرية كما فعل الدكتور محمد علي العمري في مقطعه الشهير
"كيف كان العرب يتكلمون الفصحى؟".
ثالثا: كثيرًا ما تكون هذه النقول من كتب الأدب واللغة محصورة في حالات
خاصة؛ كالشعر الذي تدخل فيه جوازات كثيرة، والذي تختلف روايته أحيانًا
باختلاف القبيلة. أو تكون محصورة في قبائل معيّنة كانت تتحدث بطريقة ما،
ومن ثم كان هناك جهد نحوي لتوصيف هذه الظواهر اللغوية جميعًا، وأبرز
هذه الجهود ما فعله سيبويه في "الكتاب". ولهذا يكون إخراج هذه النقول
عن سياقها وتوظيفها في السياق المعاصر للتوهين من التدقيق على الإعراب
جناية كبيرة يقع فيها المتخصص! فكيف إذا كان مع ذلك يدلّس بعض
النصوص؟ وهو ما فعله -مع الأسف- الدكتور محمد العمري في مقطعه
المذكور، فقد زعم أنه ينقل كلامًا لسيبويه، إلا أنّه مع الأسف أسقط منه
عبارات كاملة أسقطتْ السياق وبعض الكلمات الحاسمة في الدلالة،
وذلك ليصل إلى توظيفه لِما يريد.
وسنضع هنا النصّ الكامل لسيبويه، وهو من "باب الإشباع في الجر
والرفع" من الجزء الرابع من "الكتاب" لسيبويه، ثم سنضع نصّ الدكتور
محمد العمري ليقارن القارئ بينهما، وليرى كيف أخذ الدكتور العمري
ما يريد من النصّ، وألّف بين الجمل مُنقصا منها ومتجاوزا لجمل أخرى تقع
بينها؛ ليوظّف الكلام توظيفًا معاصرا، وسنضع خطّا تحت الكلام الذي اختاره
الدكتور العمري من نصّ سيبويه:
نصّ سيبويه:
"فأما الذين يُشبعون فيُمَطِّطون، وعلامتها واوٌ وياءٌ، وهذا تحكمه لك
المشافَهة. وذلك قولك: يضربها، ومن مأمنك. وأما الذين لا يُشبعون
فيختلسون اختلاسًا، وذلك قولك: يضربها ومن مأمنك، يسرعون اللفظَ
. ومن ثم قال أبو عمرو: {إلى بارئكم}. ويدلّك على أنها متحركة قولهم: من
مأمنك، فيُبينون النون، فلو كانت ساكنة لم تحقق النون. ولا يكون هذا
في النصب لأنّ الفتح أخفّ عليهم، كما لم يحذفوا الألف حيث حذفوا الياءات،
وزنةُ الحركة ثابتة، كما تثبت في الهمزة حيث صارت بين بين. وقد يجوز
أن يسكِّنوا الحرف المرفوع والمجرور في الشعر، شبَّهوا ذلك بكسرة فَخذٍ
حيث حذفوا فقالوا: فَخْذٌ، وبضمّة عَضُدٍ حيث حذفوا فقالوا: عَضْدٌ؛ لأنّ
الرفعة ضمةٌ والجرة كسرةٌ".
البحث في التراث عن الظواهر الشاذّة لإخراج نُتف من المقولات من هنا
وهناك، وتوظيفها للتهوين من أمر الإعراب ونطق الحروف والحركات،
هو ليس مسلكًا لتعزيز العربية وسبل تعليمها
غيتي إيميجز
نصّ الدكتور محمد العمري الذي نسبه لسيبويه:
"فأمّا الذين يُشبعون فيُمطّطون، وهذا تحكمه لك المشافهة. وأما الذين
لا يُشبعون فيختلسون اختلاسا، ويُسرعون اللفظ. ولا يكون هذا في النصب،
لأن الفتح أخفّ عليهم. وقد يجوز أن يسكّنوا الحرف المرفوع والمجرور".
وقد صُدمت في الحقيقة حين عدت إلى النصّ الأصلي لسيبويه، لا بنيّة كشف
هذا التدليس الواضح وإنقاص النصّ، فلم يكن ذلك ليخطر ببالي، بل لمعرفة
السياق الكامل لكلام سيبويه حتى أفهم المقصود منه. ولكن الذي ظهر أنّ
الدكتور العمري أسقط الأمثلة التي توضح كلام سيبويه، وأسقط عبارات مثل
"ويبيّنون النون، فلو كانت ساكنة لم تحقق النون". والأخطر من ذلك أنّه
وصل بين جمل تفصل بينها جمل أخرى أسقطها، وكذلك ما فعله في نهاية
نقله حين نقل عنه "وقد يجوز أن يسكّنوا الحرف المرفوع والمجرور"
ليعلّق قائلا بالعاميّة: "خلاص، ما في عاد ضمّة أساسا ولا فتحة، يعني
من سُرعته في كلامه الضمة والكسرة ما عادتْ باينة أساسا"! ثم يعقب
قائلا: "فهذه شهادة سيبويه"! مع إسقاطه لعبارة "في الشعر"، التي تفيد
أنّ هذا التسكين متعلّق بالشعر وبألفاظ مخصوصة، وليس في كل الشعر
ولا في كل الكلام! إلى جانب تجاهله للأمثلة القرآنية والشعرية التي توضح
مقصد سيبويه، فقد ذكر سيبويه بعد كلامه هذا أبياتا من الشعر، منها على
سبيل المثال:
إذا اعوججنَ قلتُ صاحبْ قوِّمِ .. بالدّوّ أمثال السفين العُوّمِ
وقال سيبويه معلّقا على كلمة "صاحبْ" المسكّنة: "فسألتُ من ينشد
هذا البيت من العرب، فزعم أنّه يريد صاحبي". ممّا يؤكّد أنّ هذه طريقة
في النطق جائزة عند العرب، تتلاءم مع الضرورة الشعرية التي تتحتّم في
بعض الألفاظ ليستقيم الوزن، وليس من باب تجاهل الإعراب وإغفال
الحركات في التحدث بالعربية عمومًا!
إنّ جميع هذه الأمثلة وطُرق النطق التي وردت عن أئمّة اللغة، مثل ما ورد
عن قراءة {بارئْكم} بتسكين الهمزة في قراءة أبي عمرو بن العلاء؛ هي من
اختلاف طرق النطق عند العرب بحسب لغاتهم ولهجاتهم، وقد نقلها الأئمة
بأمانة علمية كلٌّ عن مصادره، ولهذا اختلفوا فيها. وليس منبع الأمر
التسهيل على القرّاء أو التخفّف من قواعد الإعراب! وقد قرأ أبو عمرو
{سبأَ} بفتح الهمزة، وقرأها غيره بتنوين الكسر، وقرأها آخرون بتسكين
الهمزة، فما علاقة هذه الاختلافات بالتخفّف من الإعراب؟! إنّ التسكين هنا
لم يأت تخففًا من الإعراب، وإنما كان وجها من أوجه القراءات تم نقله
بأمانة علمية. إنّ الإشكالية تكمن في أن يذهب الباحث إلى النصوص التراثية
التي تتعلق بجزئية خاصّة ليسند ميلا شخصيا له في الواقع المعاصر، وحينئذ
سنجد مثل هذا التوظيف المغلوط لبعض النصوص بعد نزعها من سياقها
أو الحذف منها!
من يريد تعلّم العربية التي تفيده وتنفعه في هذه الدنيا لا يطرح سؤال "كيف
كان العرب يتكلّمون العربية؟"، بل يتمرّس بنصوص العربية الحاضرة
بين أيدينا
في بعض الأحيان يكون المتخصّصون في العربية أكثر خطرا عليها
من العوام، ومنهم أولئك الذين يفتّشون كتب اللغة والأدب لينقلوا لنا أنّ
العرب كانوا تقريبا يُهملون الحركات ولا يتشدّدون فيها. فيأتي لنا أحدهم
بقول أبي العيناء: "ما رأيت مثل الأصمعي قط، أنشدَ بيتًا من الشعر فاختلس
الإعراب". وقول أبي عمرو بن العلاء "كلام العرب الدَّرج"، وقول ابن أبي
إسحاق: "العرب ترفرف على الإعراب ولا تتفيهق به"، وغيرها من الأقوال
التي يهدف الباحث من خلالها إلى التهوين من التشدّد في إعراب الكلمات
ونطق الحروف، وإنْ لم تكن تلك النصوص تعني ذلك. في الواقع هناك مشكلة
كبيرة مع هذا الطرح الذي يتذرّع بنصوص وردتْ عن أئمة اللغة حول
"كيف كان العرب يتكلّمون" للوصول إلى نتيجة مفادها التهوين من التزام
قواعد النحو في العربية، وذلك لعدة أسباب:
أولا: هذه النقول القليلة لا تفيد إهمال العرب للإعراب، بل تفيد أنّهم كانوا فيه
أقرب للعفوية ولم يكونوا يتنطّعون به كما يحدث عند بعض المتحدّثين. وليس
أدل على ذلك من أنّنا لو تتبعنا ما ورد من هذه النقول التي ذكرناها (وهي معا
في "البصائر والذخائر" لأبي حيان التوحيدي) سنجد قول الحسحاس
بن حباب: "العرب تقع بالإعراب وكأنها لم ترد"، مما يؤكّد -بالجمع بين
هذا القول وسائر الأقوال- على أنّ الأمر متعلّق بأسلوب النطق وليس بقواعد
اللغة والتهاون في الإعراب والدعوة إلى تسكين الحروف
فرارا من الحركات!
طُرق النطق التي وردت عن أئمّة اللغة؛ تختلف باختلاف طرق النطق عند
العرب بحسب لغاتهم ولهجاتهم، وقد نقلها الأئمة بأمانة علمية
كلٌّ عن مصادره، ولهذا اختلفوا فيها
ثانيا: يغفل هؤلاء أنّ هناك فرقًا بين العربية كلغة حديث وحياة يومية عاشت
لقرون قليلة بعد النبوّة، وبين العربية الفصيحة "الرسمية" التي هي لغة
الشعر والخطب والقرآن والأحاديث النبوية، وهذه الأخيرة هي التي يُرجى
بهذه الأجيال تعلّمها؛ فنحن لا نتعلّم العربية لنعرف كيف كانت شتى القبائل
تتحدث ولا لنعرف لغاتها الشاذة، بل هذا يدرسه المتخصصون لغايات بحثية،
أما تعلّم العربية فهو يرتكز على العربية "الرسمية" التي يُراد من تعلّمها
فَهم خطاب الله سبحانه وتلاوته وفهم خطاب رسوله -صلى الله عليه وسلّم-
في المقام الأول، إلى جانب فهم النصوص العربية الأصيلة التي وصلتنا؛
كالشعر والخطب المحفوظة وسائر كتب التراث العربي. ومن ثمّ يكون
التشديد على الإعراب وعلى مخارج الحروف أمرًا ضروريّا وليس شيئا
باعثا على السخرية كما فعل الدكتور محمد علي العمري في مقطعه الشهير
"كيف كان العرب يتكلمون الفصحى؟".
ثالثا: كثيرًا ما تكون هذه النقول من كتب الأدب واللغة محصورة في حالات
خاصة؛ كالشعر الذي تدخل فيه جوازات كثيرة، والذي تختلف روايته أحيانًا
باختلاف القبيلة. أو تكون محصورة في قبائل معيّنة كانت تتحدث بطريقة ما،
ومن ثم كان هناك جهد نحوي لتوصيف هذه الظواهر اللغوية جميعًا، وأبرز
هذه الجهود ما فعله سيبويه في "الكتاب". ولهذا يكون إخراج هذه النقول
عن سياقها وتوظيفها في السياق المعاصر للتوهين من التدقيق على الإعراب
جناية كبيرة يقع فيها المتخصص! فكيف إذا كان مع ذلك يدلّس بعض
النصوص؟ وهو ما فعله -مع الأسف- الدكتور محمد العمري في مقطعه
المذكور، فقد زعم أنه ينقل كلامًا لسيبويه، إلا أنّه مع الأسف أسقط منه
عبارات كاملة أسقطتْ السياق وبعض الكلمات الحاسمة في الدلالة،
وذلك ليصل إلى توظيفه لِما يريد.
وسنضع هنا النصّ الكامل لسيبويه، وهو من "باب الإشباع في الجر
والرفع" من الجزء الرابع من "الكتاب" لسيبويه، ثم سنضع نصّ الدكتور
محمد العمري ليقارن القارئ بينهما، وليرى كيف أخذ الدكتور العمري
ما يريد من النصّ، وألّف بين الجمل مُنقصا منها ومتجاوزا لجمل أخرى تقع
بينها؛ ليوظّف الكلام توظيفًا معاصرا، وسنضع خطّا تحت الكلام الذي اختاره
الدكتور العمري من نصّ سيبويه:
نصّ سيبويه:
"فأما الذين يُشبعون فيُمَطِّطون، وعلامتها واوٌ وياءٌ، وهذا تحكمه لك
المشافَهة. وذلك قولك: يضربها، ومن مأمنك. وأما الذين لا يُشبعون
فيختلسون اختلاسًا، وذلك قولك: يضربها ومن مأمنك، يسرعون اللفظَ
. ومن ثم قال أبو عمرو: {إلى بارئكم}. ويدلّك على أنها متحركة قولهم: من
مأمنك، فيُبينون النون، فلو كانت ساكنة لم تحقق النون. ولا يكون هذا
في النصب لأنّ الفتح أخفّ عليهم، كما لم يحذفوا الألف حيث حذفوا الياءات،
وزنةُ الحركة ثابتة، كما تثبت في الهمزة حيث صارت بين بين. وقد يجوز
أن يسكِّنوا الحرف المرفوع والمجرور في الشعر، شبَّهوا ذلك بكسرة فَخذٍ
حيث حذفوا فقالوا: فَخْذٌ، وبضمّة عَضُدٍ حيث حذفوا فقالوا: عَضْدٌ؛ لأنّ
الرفعة ضمةٌ والجرة كسرةٌ".
البحث في التراث عن الظواهر الشاذّة لإخراج نُتف من المقولات من هنا
وهناك، وتوظيفها للتهوين من أمر الإعراب ونطق الحروف والحركات،
هو ليس مسلكًا لتعزيز العربية وسبل تعليمها
غيتي إيميجز
نصّ الدكتور محمد العمري الذي نسبه لسيبويه:
"فأمّا الذين يُشبعون فيُمطّطون، وهذا تحكمه لك المشافهة. وأما الذين
لا يُشبعون فيختلسون اختلاسا، ويُسرعون اللفظ. ولا يكون هذا في النصب،
لأن الفتح أخفّ عليهم. وقد يجوز أن يسكّنوا الحرف المرفوع والمجرور".
وقد صُدمت في الحقيقة حين عدت إلى النصّ الأصلي لسيبويه، لا بنيّة كشف
هذا التدليس الواضح وإنقاص النصّ، فلم يكن ذلك ليخطر ببالي، بل لمعرفة
السياق الكامل لكلام سيبويه حتى أفهم المقصود منه. ولكن الذي ظهر أنّ
الدكتور العمري أسقط الأمثلة التي توضح كلام سيبويه، وأسقط عبارات مثل
"ويبيّنون النون، فلو كانت ساكنة لم تحقق النون". والأخطر من ذلك أنّه
وصل بين جمل تفصل بينها جمل أخرى أسقطها، وكذلك ما فعله في نهاية
نقله حين نقل عنه "وقد يجوز أن يسكّنوا الحرف المرفوع والمجرور"
ليعلّق قائلا بالعاميّة: "خلاص، ما في عاد ضمّة أساسا ولا فتحة، يعني
من سُرعته في كلامه الضمة والكسرة ما عادتْ باينة أساسا"! ثم يعقب
قائلا: "فهذه شهادة سيبويه"! مع إسقاطه لعبارة "في الشعر"، التي تفيد
أنّ هذا التسكين متعلّق بالشعر وبألفاظ مخصوصة، وليس في كل الشعر
ولا في كل الكلام! إلى جانب تجاهله للأمثلة القرآنية والشعرية التي توضح
مقصد سيبويه، فقد ذكر سيبويه بعد كلامه هذا أبياتا من الشعر، منها على
سبيل المثال:
إذا اعوججنَ قلتُ صاحبْ قوِّمِ .. بالدّوّ أمثال السفين العُوّمِ
وقال سيبويه معلّقا على كلمة "صاحبْ" المسكّنة: "فسألتُ من ينشد
هذا البيت من العرب، فزعم أنّه يريد صاحبي". ممّا يؤكّد أنّ هذه طريقة
في النطق جائزة عند العرب، تتلاءم مع الضرورة الشعرية التي تتحتّم في
بعض الألفاظ ليستقيم الوزن، وليس من باب تجاهل الإعراب وإغفال
الحركات في التحدث بالعربية عمومًا!
إنّ جميع هذه الأمثلة وطُرق النطق التي وردت عن أئمّة اللغة، مثل ما ورد
عن قراءة {بارئْكم} بتسكين الهمزة في قراءة أبي عمرو بن العلاء؛ هي من
اختلاف طرق النطق عند العرب بحسب لغاتهم ولهجاتهم، وقد نقلها الأئمة
بأمانة علمية كلٌّ عن مصادره، ولهذا اختلفوا فيها. وليس منبع الأمر
التسهيل على القرّاء أو التخفّف من قواعد الإعراب! وقد قرأ أبو عمرو
{سبأَ} بفتح الهمزة، وقرأها غيره بتنوين الكسر، وقرأها آخرون بتسكين
الهمزة، فما علاقة هذه الاختلافات بالتخفّف من الإعراب؟! إنّ التسكين هنا
لم يأت تخففًا من الإعراب، وإنما كان وجها من أوجه القراءات تم نقله
بأمانة علمية. إنّ الإشكالية تكمن في أن يذهب الباحث إلى النصوص التراثية
التي تتعلق بجزئية خاصّة ليسند ميلا شخصيا له في الواقع المعاصر، وحينئذ
سنجد مثل هذا التوظيف المغلوط لبعض النصوص بعد نزعها من سياقها
أو الحذف منها!
من يريد تعلّم العربية التي تفيده وتنفعه في هذه الدنيا لا يطرح سؤال "كيف
كان العرب يتكلّمون العربية؟"، بل يتمرّس بنصوص العربية الحاضرة
بين أيدينا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق