المتعة الجاهزة
المتعة الجاهزة .. أطفالنا والتكنولوجيا
دائما ما تراودني تساؤلات حول الصحة النفسية لأطفالي ولأقرانهم، اليوم
وبعد بلوغهم. وينتابني دائما قلق حول صحة الكثير من المفاهيم التي نساهم
نحن كولاة أمرهم في تشكيلها لهم، وما لتلك المفاهيم من ارتباط بالغ بوعيهم
بذاتهم، واستقرار صحتهم النفسية. لقد وقعت كأم في خطأ تعريض أبنائي
لمتعة التكنولوجيا في سن مبكرة، تلك الأجهزة الماتعة التي لا حدود
لمحتواها كما وكيفا، غير المكلفة وذات النتائج المذهلة في ضبط الأطفال
وإبقائهم في حالة من السكون والأمان لفترة من الوقت كافية ليقوم
الوالدين بمهامهم.
ثم تعرضت بعد فترة لعدد من الأفلام الوثائقية والدراسات والمقالات التي
تتضارب فيها الآراء ما بين جواز تعريض الأطفال للتكنولوجيا لساعات
مضبوطة وما بين تحريم ذلك. والاستدلال ببعض الدراسات التي تؤمن
بإضرارها بالجهاز العصبي ومهارات النطق والتفكير والتركيز وغيرها.
وما بين محاولة التماس الأصح لأطفالي، وقفت أمامي كلمات الملل والسآمة
الخارجة من أفواههم بتنهديه طويلة، لتضعني تحت المساءلة عن كيف يفهم
أطفالي المتعة والتسلية؟ وكيف ومن يساهم في غرس هذه المفاهيم لدى
الأطفال؟ هل المدرسة؟ أم الأصدقاء؟ أم السوق؟ أم الإعلانات؟
يَدْرُجُ في مفهومنا العامي أن البيت ليس للعب، وأن لكل غرفة وزاوية في
البيت استخدام خاص ومحدد، وإن لم يتوافق هذا المفهوم مع راحة الأطفال
واحتياجاتهم. هناك تقديس للأثاث وهيبة البيت وجدرانه وأركانه، وعلى
الأطفال -حتى قبل وعيهم بالمكان والمسئولية- الالتزام بهذا الدستور. وتقع
مسئولية الحفاظ على هذا القانون على الأم، وتُلام من أي طرف زائر للبيت
إن خُرق، ما يشكل عبئا نفسيا على كثير من الأمهات لضبط الأبناء، وإيجاد
حلول أقل تكلفة لتسليتهم، كالأجهزة الذكية التي تقدم لهم المتعة جاهزة،
وهادئة، وصديقة لنظافة المنزل.
ثم تساهم البيئة المحيطة في تكريس ذات المفهوم، فالزيارات الاجتماعية
مع أن غرضها قضاء وقت جميل (اجتماعيا) إلا أن كثيرون لا يتحملون
عبء استمتاع الأطفال بوقتهم باللعب أو الركض، فترى الأطفال ملتفون حول
شاشة التلفاز حتى تنتهي الزيارة بانتهاء العرض. في صالات الانتظار عند
الأطباء وحتى بعض المحلات التجارية، تتوفر شاشة التلفاز لكل طفل تراوده
نفسه بالركض أو الاستمتاع بالتسوق كنشاط بدني وعقلي.
وحتى في المدارس العامة، يخصص للأطفال عشرة أو عشرون دقيقة من
أصل ٦ ساعات للعب الحر. ثم يُكثر المدرسون من تشخيص الأطفال بفرط
الحركة وقلة التركيز إن لم تكفهم تلك الدقائق في تفريغ كل احتياجهم
الحركي. الإعلانات التلفزيونية مثلا تصور للطفل بأن الألعاب وحدها هي
مصدر السعادة، لا نرى إعلان لمقص وقصاصات ورق ملونة أو علبة لالتقاط
الحشرات والاحتفاظ بها أو حتى دراجة هوائية. كل الإعلانات لألعاب
تزيد من هدوء الطفل وبقائه ساكنا في مكان واحد.
صادفت يوما كتابا نادرا جدا في المكتبة ألفته أُمٌّ لتعطينا أفكارا للعب الحر
للأطفال يوميا على مدار الفصول الأربعة، فتساءلت هل حقا علينا إخراج
الأطفال في الثلج يوميا للاستماع بالطبيعة مهما تغايرت أشكالها؟ ولماذا
نكلف أنفسنا هذا العناء وهناك شاشة مسلية في بيت دافئ؟ ينشأ الأطفال
اليوم في بيئات مُقَنَّنَة ومُقَنِّنَة لسلوكهم، نظام البيت مقنن، ونظام المدرسة
مقنن، الأماكن العامة المخصصة لإمتاع الأطفال مكدسة بكم من الأجهزة
الذكية التي تقدم لهم متعة افتراضية عبر شاشة صغيرة، السوق يوفر لك
متعة مقننة، وعيادة الطبيب كذلك. كل المتع جاهزة بمقدار بسيط
من العملة أو مجانا.
وتتضاءل أمام كل هذا مساحات اللعب الحر، اكتشاف الأطفال لذاتهم،
استمتاعهم بالبسيط المتوفر، وبضوضاء لعبهم ومشاغباتهم وتدافعهم
وضحكهم وصراخهم وبكائهم حتى. الأطفال مطالبون دوما بالهدوء
والانضباط في كل الأماكن وحتى في البيت. أما تربيتهم من خلال التعرض
لمختلف السلوكيات وتعديلها وتوجيهها وإعطائهم المساحة الشخصية
لاكتشاف قدراتهم وطاقاتهم الكامنة على اختلافها، فطريقة نادرة اليوم.
السماح لهم بالملل مثلا ثم الصبر على محاولاتهم لعلاج الملل بأنفسهم كأي
احتياج ذاتي عليهم تلبيته ذاتيا من غير تدخلنا أو تدخل البيئة المحيطة،
أيضا نادر جدا.
من جميل ما قرأته يوما وحاولت تطبيقه، تكرار قولي لأطفالي بأن "التخلص
من الملل مسئولية ذاتية، وبأن الأشخاص الذين ينتظرون التسلية من غيرهم
أشخاص لا يعول عليهم بل وينبغي تجنبهم" وهو موقف مذكور في كتاب
"Weapons of Mass Instruction" هذا الحل يُلجئهم غالبا للعب
الحر، المتسبب في كثير من فوضى المكان والعقل والسلوك، ما يبقيني في
صراع بين إمساك جهاز التحكم وإنهاء هذا الضجيج وبين التمسك بقناعاتي
التي شاركتكم بها. وأتساءل بصدق هل ستثبت هذه المحاولات أمام سيل
جارف من المتع الجاهزة من حولهم، المريحة للجميع؟ وهل سيتحول جيل
كامل إلى مُتلق للمتعة فارغ من الحافز الذاتي لإشباع الشعور بالسعادة؟
أتمنى أن نكون أقوى من كل المشتتات من حولنا، لأن علاج شاب أو فتاة
غير مدركين لآليات تحفيز ذاتهم وإشباع احتياجاتهم النفسية أصعب بكثير
من غلق شاشة التلفاز في وجههم اليوم وتركهم لمواجهة الملل ومغالبة
نفسهم من غير مساعدة، وهم في سن صغيرة.
المتعة الجاهزة .. أطفالنا والتكنولوجيا
دائما ما تراودني تساؤلات حول الصحة النفسية لأطفالي ولأقرانهم، اليوم
وبعد بلوغهم. وينتابني دائما قلق حول صحة الكثير من المفاهيم التي نساهم
نحن كولاة أمرهم في تشكيلها لهم، وما لتلك المفاهيم من ارتباط بالغ بوعيهم
بذاتهم، واستقرار صحتهم النفسية. لقد وقعت كأم في خطأ تعريض أبنائي
لمتعة التكنولوجيا في سن مبكرة، تلك الأجهزة الماتعة التي لا حدود
لمحتواها كما وكيفا، غير المكلفة وذات النتائج المذهلة في ضبط الأطفال
وإبقائهم في حالة من السكون والأمان لفترة من الوقت كافية ليقوم
الوالدين بمهامهم.
ثم تعرضت بعد فترة لعدد من الأفلام الوثائقية والدراسات والمقالات التي
تتضارب فيها الآراء ما بين جواز تعريض الأطفال للتكنولوجيا لساعات
مضبوطة وما بين تحريم ذلك. والاستدلال ببعض الدراسات التي تؤمن
بإضرارها بالجهاز العصبي ومهارات النطق والتفكير والتركيز وغيرها.
وما بين محاولة التماس الأصح لأطفالي، وقفت أمامي كلمات الملل والسآمة
الخارجة من أفواههم بتنهديه طويلة، لتضعني تحت المساءلة عن كيف يفهم
أطفالي المتعة والتسلية؟ وكيف ومن يساهم في غرس هذه المفاهيم لدى
الأطفال؟ هل المدرسة؟ أم الأصدقاء؟ أم السوق؟ أم الإعلانات؟
يَدْرُجُ في مفهومنا العامي أن البيت ليس للعب، وأن لكل غرفة وزاوية في
البيت استخدام خاص ومحدد، وإن لم يتوافق هذا المفهوم مع راحة الأطفال
واحتياجاتهم. هناك تقديس للأثاث وهيبة البيت وجدرانه وأركانه، وعلى
الأطفال -حتى قبل وعيهم بالمكان والمسئولية- الالتزام بهذا الدستور. وتقع
مسئولية الحفاظ على هذا القانون على الأم، وتُلام من أي طرف زائر للبيت
إن خُرق، ما يشكل عبئا نفسيا على كثير من الأمهات لضبط الأبناء، وإيجاد
حلول أقل تكلفة لتسليتهم، كالأجهزة الذكية التي تقدم لهم المتعة جاهزة،
وهادئة، وصديقة لنظافة المنزل.
ثم تساهم البيئة المحيطة في تكريس ذات المفهوم، فالزيارات الاجتماعية
مع أن غرضها قضاء وقت جميل (اجتماعيا) إلا أن كثيرون لا يتحملون
عبء استمتاع الأطفال بوقتهم باللعب أو الركض، فترى الأطفال ملتفون حول
شاشة التلفاز حتى تنتهي الزيارة بانتهاء العرض. في صالات الانتظار عند
الأطباء وحتى بعض المحلات التجارية، تتوفر شاشة التلفاز لكل طفل تراوده
نفسه بالركض أو الاستمتاع بالتسوق كنشاط بدني وعقلي.
وحتى في المدارس العامة، يخصص للأطفال عشرة أو عشرون دقيقة من
أصل ٦ ساعات للعب الحر. ثم يُكثر المدرسون من تشخيص الأطفال بفرط
الحركة وقلة التركيز إن لم تكفهم تلك الدقائق في تفريغ كل احتياجهم
الحركي. الإعلانات التلفزيونية مثلا تصور للطفل بأن الألعاب وحدها هي
مصدر السعادة، لا نرى إعلان لمقص وقصاصات ورق ملونة أو علبة لالتقاط
الحشرات والاحتفاظ بها أو حتى دراجة هوائية. كل الإعلانات لألعاب
تزيد من هدوء الطفل وبقائه ساكنا في مكان واحد.
صادفت يوما كتابا نادرا جدا في المكتبة ألفته أُمٌّ لتعطينا أفكارا للعب الحر
للأطفال يوميا على مدار الفصول الأربعة، فتساءلت هل حقا علينا إخراج
الأطفال في الثلج يوميا للاستماع بالطبيعة مهما تغايرت أشكالها؟ ولماذا
نكلف أنفسنا هذا العناء وهناك شاشة مسلية في بيت دافئ؟ ينشأ الأطفال
اليوم في بيئات مُقَنَّنَة ومُقَنِّنَة لسلوكهم، نظام البيت مقنن، ونظام المدرسة
مقنن، الأماكن العامة المخصصة لإمتاع الأطفال مكدسة بكم من الأجهزة
الذكية التي تقدم لهم متعة افتراضية عبر شاشة صغيرة، السوق يوفر لك
متعة مقننة، وعيادة الطبيب كذلك. كل المتع جاهزة بمقدار بسيط
من العملة أو مجانا.
وتتضاءل أمام كل هذا مساحات اللعب الحر، اكتشاف الأطفال لذاتهم،
استمتاعهم بالبسيط المتوفر، وبضوضاء لعبهم ومشاغباتهم وتدافعهم
وضحكهم وصراخهم وبكائهم حتى. الأطفال مطالبون دوما بالهدوء
والانضباط في كل الأماكن وحتى في البيت. أما تربيتهم من خلال التعرض
لمختلف السلوكيات وتعديلها وتوجيهها وإعطائهم المساحة الشخصية
لاكتشاف قدراتهم وطاقاتهم الكامنة على اختلافها، فطريقة نادرة اليوم.
السماح لهم بالملل مثلا ثم الصبر على محاولاتهم لعلاج الملل بأنفسهم كأي
احتياج ذاتي عليهم تلبيته ذاتيا من غير تدخلنا أو تدخل البيئة المحيطة،
أيضا نادر جدا.
من جميل ما قرأته يوما وحاولت تطبيقه، تكرار قولي لأطفالي بأن "التخلص
من الملل مسئولية ذاتية، وبأن الأشخاص الذين ينتظرون التسلية من غيرهم
أشخاص لا يعول عليهم بل وينبغي تجنبهم" وهو موقف مذكور في كتاب
"Weapons of Mass Instruction" هذا الحل يُلجئهم غالبا للعب
الحر، المتسبب في كثير من فوضى المكان والعقل والسلوك، ما يبقيني في
صراع بين إمساك جهاز التحكم وإنهاء هذا الضجيج وبين التمسك بقناعاتي
التي شاركتكم بها. وأتساءل بصدق هل ستثبت هذه المحاولات أمام سيل
جارف من المتع الجاهزة من حولهم، المريحة للجميع؟ وهل سيتحول جيل
كامل إلى مُتلق للمتعة فارغ من الحافز الذاتي لإشباع الشعور بالسعادة؟
أتمنى أن نكون أقوى من كل المشتتات من حولنا، لأن علاج شاب أو فتاة
غير مدركين لآليات تحفيز ذاتهم وإشباع احتياجاتهم النفسية أصعب بكثير
من غلق شاشة التلفاز في وجههم اليوم وتركهم لمواجهة الملل ومغالبة
نفسهم من غير مساعدة، وهم في سن صغيرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق