شرح الدعاء (113)
{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} .
2- {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا
كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا
وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.
هاتان الآيتان الكريمتان اللتان هما آخر آيات سورة البقرة قد جاءت
الأخبار في فضلهما في عدة أحاديث عن الصادق المصدوق حيث قال:
((مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ )) .
وجاء عنه : ((أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ بَيْتِ كَنْزٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ
لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْــلي))، وما جاء كذلك:
((عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ
سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: ((هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ
الْيَوْمَ، لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ
لَمْ يَنْزِلْ إِلا الْيَوْمَ فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بنورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ:
فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأْ بِحَرْفٍ مِنْهَا إِلا أُعْطِيتَهُ)).
فقد حوت هذه الآيات الكثير من المعاني الجليلة، والمقاصد العظيمة،
والدلالات الواسعة، ففي صدرها أخبر ربنا أن رسول اللَّه ومن معه من المؤمنين
قد أقروا بأصول الإيمان العظيمة، بالإيمان باللَّه ، والاستسلام الكامل له تبارك وتعالى
ظاهراً وباطناً، وأنهم قد جمعوا بين كمال الإيمان، وشمول الإسلام، وفي الإخبار عنهم
جميعاً مع النبي في سياق واحد
فضيلة ظاهرة، وشرفٌ عظيمٌ للمؤمنين، وفيه بيان
((بأن رسول اللَّه مشارك للأمّة في الخطاب الشرعيّ له، وقيامه التامّ
به، وأنه فاق؛ بل فاق جميع المرسلين في القيام بالإيمان وحقوقه)).
{وَقَالُوْا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}: أي سمعنا قولك، وفهمنا ما جاءنا من الحق،
وتيقنّا بصحته، وأطعنا بامتثال أوامرك، واجتنبنا نواهيك.
((وهذا إقرار منهم بركني الإيمان اللّذَين لا يقوم إلا بهما، وهما: السمع:
المتضمّن للقبول والتسليم، والطاعة المتضمنّة لكمال الانقياد
وامتثال الأمر)) .
{غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}: ((قدموا السمع والطاعة على المغفرة؛ لأن
تقدم الوسيلة على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول))، وفي طلبهم
المغفرة لأنهم علموا أنهم لا بد وأن يقع منهم التقصير والنقصان بطبيعتهم
البشرية، فإن ذلك من لوازمهم التي لا تنفك عنهم، ثم أقرّوا للَّه تعالى:
الرجوع، والمآب في جميع الأمور الدنيوية والأخروية إليه،
ومن أعظمها يوم القيامة.
ولا يخفى في هذه الدعوات جميل الأدب، وحسن الاختيار، وجميل الثناء
والطلب، الموجب القبول والرضى عند بارئهم تبارك وتعالى.
ولما كمل من ذلك الأدب الجليل المعبر عن كمال الخضوع والتعظيم،
شرعوا في أنواع المطالب والسؤال.
فقالوا: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}: يا ربنا لا تؤاخذنا إن تركنا
فرضاً على جهة النسيان، أو فعلنا الحرام كذلك.
{ أَوْ أَخْطَأْنَا }: أي الصواب في العمل، جهلاً منّا بوجهه الشرعي.
وقد جاء الخبر عن النبي أن اللَّه تبارك وتعالى قال: (نعم).
وفي لفظ قال : ((قد فعلت)).
وقد جاء ما يشير إلى ذلك عن النبي أنه قال: ((إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى
وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي اَلْخَطَأَ , وَالنِّسْيَانَ , وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)) .
{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا}: أي لا تكلّفنا
من الأعمال الشاقّة وإن أطقناها، كما شرعته للأمم الماضية قبلنا
من الأغلال والأعباء الشديدة التي كانت عليهم.
{رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}: وتكرير لفظ الربوبية في الآيات لإبراز
مزيد من الضّراعة الموصل إلى كمال العبادة المؤذن إلى القبول والإجابة.
أي: لا تحمّلنا من التكليف والمصائب والبلاء ما لا نقدر عليه.
{وَاعْفُ عَنَّا } أي: ((اصفح عنّا فيما بيننا وبينك من تقصيرنا، وزللنا
{وَاغْفِرْ لَنَا } أي: فيما بيننا وبين عبادك، فلا تُظهِر على مساوينا،
وأعمالنا القبيحة.
{وَارْحَمْنَآ }: ((فيما يُستقبل فلا توقعنا بتوفيقك إلى ذنب آخر؛
ولهذا قالوا: إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء:
- أن يعفو اللَّه عنه فيما بينه وبينه.
- وأن يستره عن عباده، فلا يفضحه به بينهم.
- وأن يعصمه، فلا يوقعه في نظيره.
وقد تقدم أن اللَّه تعالى: قد قال: (قد فعلت))).
وفي تقديم العفو والمغفرة على طلب الرحمة كما تقدم: أن التخلية سابقة
على التحلية، ولم يأتِ في هذه الجمل الثلاث قوله: (ربنا): ((لأنها فروع
لهذه الدعوات الثلاث، ونتائج لها { أَنتَ مَوْلاَنَا } أي: أنت مالكنا،
وسيّدنا، وناصرنا.
{فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }: ((حيث أتى بـ(الفاء) إيذاناً بالسببية؛ لأن
اللَّه لما كان مولاهم ومالكهم، ومدبر أمورهم، تسبّب عنه أن دعوه
بأن ينصرهم على أعدائهم)) .
أي: يا ربنا انصرنا على الذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيتك، ورسالة
نبيّك، وعبدوا غيرك، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة، كما
في دعاء النبي : ((اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ)).
وهذا يدل على عنايتهم الكبرى بدينهم، وأنه شغلهم الشاغل مرضات اللَّه
تعالى في كل الأحوال والأوقات؛ فإن همَّ الدين والآخرة هو الهمّ المرغوب
فيه حيث يحوي خيري الدنيا والآخرة، قال النبي : ((مَنْ كَانَ هَمُّهُ الْآخِرَةَ،
جَمَعَ اللهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ
نِيَّتُهُ الدُّنْيَا، فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ
مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ)).
تضمنت هذه الدعوات الجليلات من عظيم الفوائد والمنافع:
1- أن الإيمان هو أعظم أعمال القلوب المستلزم لأعمال الأركان.
2- أن الإيمان الكامل هو الإيمان بكل ما جاء عن اللَّه تعالى،
وبكل ما جاء عن رسول اللَّه ، مع الانقياد والتسليم.
3- ((إثبات علوّ اللَّه لقوله تعالى: {بِمَا أَنْزَلَ اللَّه }،
والنزول يكون من أعلى إلى الأسفل.
4- أن من صفات المؤمن السمع والطاعة.
5- أن كل الخلق محتاج إلى مغفرة اللَّه تبارك وتعالى،
وحتى الأنبياء والرسل.
6- أنه كلما كان الإنسان أقوى إيماناً بالرسول كان أشد اتباعاً له)).
7- عِظم وسَعَة رحمة اللَّه لهذه الأمة في إسقاط كثير من التكاليف
الشّاقّة، دلّ عليه قول اللَّه : ((قد فعلت))، فينبغي ملازمة حمده وشكره
آناء الليل وأطراف النهار بما تفضّل علينا بهذا الدين العظيم، فله المنَّة،
والحمد، والثناء.
8- من عظيم رحمة اللَّه تعالى علينا كذلك أنه علّمنا هذا الدعاء الذي
ندعوه، ثم يستجيب لنا تفضّلاً منه ونعمة.
9- أهمية سؤال اللَّه تعالى: (العفو، والمغفرة، والرحمة)؛ لما فيها
من كل خير يتمنّاه العبد، ومن كلّ شرٍّ يخافه في الدنيا والآخرة.
10- إثبات ولاية اللَّه الخاصّة للمؤمنين التي تقتضي النصرة والعناية
والتأييد، وهذه غير ولاية اللَّه العامّة لكل الخلق.
11- أن العبد محتاج إلى سؤال اللَّه تعالى النصرة على الكافرين
في كل زمان.
12- أهمّيّة الدعاء للعبد المسلم في حياته ومهمّاته، وذلك أنه تعالى
ضمنّه في آيات لها فضل عظيم كما جاء بالأخبار عنها قرآن يتلى
إلى يوم الدين.
13- أهمية الإلحاح في الدعاء، وأنه من أهم الأسباب في قبول الدعاء؛
حيث ورد التوسل بربوبيّته تعالى أربع مرات.
14- الدعاء الأكمل هو الجامع لأكثر من توسّل؛ حيث جمعوا التوسل
بأسمائه تعالى وصفاته، وكذلك بأعمالهم الصالحة ((سمعنا وأطعنا)).
15- يُستحبّ البسط في الدعاء لما فيه من كمال العبودية المقتضي
لكثرة الثواب، وإجابة الدعاء.
16- أنَّ ذكر بعض الخصال التي يقوم بها العبد إلى اللَّه تعالى حال
الدعاء، ليس من باب التزكية، وإنما من باب التوسل إليه تعالى بعمله
الصالح المتضمّن للتذلّل والخشوع له جل وعلا.
17- أن أعظم التوسل إلى اللَّه تعالى على الإطلاق التوسل إليه
بربوبيته تعالى، التي تحصل بها المحبوبات، وتندفع بها المكروهات؛
ولهذا كانت أغلبية أدعية القرآن مصدرة بالتوسل به.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق