محاسبة النفس 6
قال ابن قدامة في كتابه : مختصر منهاج القاصدين :
وتحققَ أربابُ البصائر أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار - الناتجة عن عدمِ
محاسبة النفس - إلا لزومُ المحاسبةِ لأنفسِهم وصِدْقُ المراقبة ، فمن حاسبَ
نفسهُ في الدنيا خفَّ حسابه في الآخرة ، ومَن أهملَ المحاسبة دامتْ حسراته
، فلما علموا أنهم لا يُنجيهم إلا الطاعة ، وقد أمرَهم بالصبرِ والمرابطةِ
فقالَ سبحانه : }يا أيُّها الَذينَ آمَُنواْ اصبِروا وَصابِرواْ ورابِطوا{
فرابطوا أنفسَهم أولاً بالمشارطةِ ثمّ بالمراقبة ، ثم بالمحاسبةِ ثم
بالمعاقبة ، ثم بالمجاهدةِ ثم بالمعاتبة ، فكانتْ لهم في المرابطةِ سِتُّ
مقاماتٍ أصلُها المحاسبة ، ولكنْ كلّ حسابٍ يكونُ بعدَ مشارطةٍ ومراقبة ،
ويتبعهُ عندَ الخُسران المعاتبةُ والمعاقبة . نأخذها الآنَ بشيءٍ منَ
التفصيل :
المقامُ الأول : المشــارطة :
اعلم أنّ التاجرَ كما يستعينُ بشريكهِ في التجارةِ طلباً للربح ، ويشارطهُ
ويحاسبه ، كذلك العقلُ يحتاجُ إلى مشاركةِ النفس وشرطِ الشروطِ عليها
وإرشادِها إلى طريقِ الفلاح ، والتضييقِ عليها في حركاتها وسكناتها .
فمثلاً : إذا فَرِغَ العبدُ من صلاةِ الصُبْح ، ينبغي أن يُفرغَ قلبَه
ساعةً لمشارطةِ نفسهِ
فيقولُ للنفس : ماليَ بضاعة إلا العُمُر ، فإذا فَنِيَ مني رأس المال وقعَ
اليأسُ من التجارةِ وطلبِ الربح . فليقُل أحدُنا الآنَ قبلَ الموت : يا نفس
، اجتهدي اليومَ في أن تعـمُري خِزانتكِ ولا تدعيها فارغة ، ولا تَميلي
إلى اليأسِ والدَعَةِ والاستراحة فيفوتكِ من درجاتِ عليينَ ما يُدْرِكه
غيرَكِ المقامُ الثاني : المراقبــة :
إذا أوصى الإنسانُ نفسَهُ وشَرَطَ عليها ، لم يبقَ إلا المراقبة لها وملاحظتها وفي الحديثِ الصحيح في تفسيرِ الإحسان ،
لما سُئِلَ عنهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال : (( أنْ تعبدَ الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراهُ فإنه يراك )) .
فمراقبة العبد نفسَه في الطاعة هو أن يكونُ مخلصاً فيه!
ا ، ومراقبته في المعصيةِ تكونُ بالتوبةِ والندمِ والإقلاع ، ومراقبته في
المباح تكونُ بمراعاةِ الأدب والشكرِ على النعيم ، وكلُّ ذلك لا يخلو من
المراقبة
المقام الثالث : المحاسبةُ بعدَ العمل :
اعلم أن العبدَ كما ينبغي أن يكونَ له وقتٌ في أولِ النهار يشارطُ فيهِ نفسه ، كذلك ينبغي أن يكونَ له ساعةٌ
يطالبُ فيهِ نفسه في آخرِ النهار ويحاسبُها على جميعِ ما كانَ منها ، كما
يفعلُ التُجّار في الدنيا معَ الشُركاءِ في آخرِ كل سنةٍ أو شهرٍ أو يوم .
المقام الرابع : معاقبةُ النفسِ على تقصيرِها :
اعلم أن العبدَ إذا حاسبَ نفسهُ فرأى منها تقصيراً ، أو فعلَتْ شيئاً من
المعاصي ، فلا ينبغي أن يهملَها ، فإنه يَسْهُلُ عليهِ حينئذٍ مقارفةُ
الذنوب ويعسرُ عليه فِطامُها ، بل ينبغي أن يعاقبها عقوبةً مباحة ، كما
يعاقبُ أهلَهُ وأولادَه . وكما رويَ عن عمر رضي الله عنه : أنه خَرجَ إلى
حائطٍ له ثم رَجعَ وقد صلى الناسُ العصرَ ، فقال : إنما خرجتُ إلى حائطي
ورَجعتُ وقد صلى الناسُ العصرَ ، حائطي صدقةٌ على المساكين .
المقام الخامس : المجــاهدة :
إذا حاسبَ الإنسانُ نفسَه ، فينبغي إذا رآها قد قارفت معصيةً أن يُعاقبـَها
كما سبق ، فإن رآها تتوانى للكسلِ في شيءٍ من الفضائلِ أو وِرد من الأوراد
، فينبغي أن يؤدبـَها بتثقيلِ الأورادِ عليها ، كما وردَ عن ابنِ عمرَ رضي
الله عنه ، أنه إذا فاتته صلاةٌ في جماعةٍ فأحيا الليلَ كلَّه! ُ تِلكَ
الليلة ، فهوَ هُنا يجاهدُها ويُكرِهُهَا ما استطاع .
المقام السادس والأخير : معاتبةُ النفسِ وتوبيخُـها :
قال أنس رضي الله عنه : سمعتُ عمرَ بن الخطابِ رضي الله عنه ، وقد دخلَ
حائطاً ، وبيني وبينه جدار ، يقول : عمرُ بن الخطاب أميرُ المؤمنين !! بخٍ
بخ ، واللهِ لتتقينَ الله يا ابن الخطاب أو ليُعذبنَّك ! .
أخي الحبيب : اعلم أن أعدى عدوٍ لكَ نفسُكَ التي بين جنبيك ، وقد خُلِقتْ
أمارةً بالسوءِ ميالةً إلى الشرورِ ، وقد أُمرتَ بتقويمها وتزيكتها وفطامها
عن موارِدِها ، وأن تقودَها بسلاسلِ القهْرِ إلى عبادةِ ربِها ، فإن أنتَ
أهملتها ضلّتْ وشَرِدتْ ، وإن لزمتَها بالتوبيخِ رَجونا أن تصيرَ مُطمئنة ،
فلا تغفلنّ عن تذكيرِها .
أخي الحبيب : كم صلاةٍ أضعتَها ؟ كم جُمُعَةٍ تهاونتَ بها ؟ كم صدقةٍ
بَخِلتَ بها ؟ كم معروفٍ تكاسلتَ عنه ؟ كم منكرٍ سكتَّ عليه ؟ كم نظرةٍ
محرمةٍ أصبتَها ؟ كم كلمةٍ فاحشةٍ أطلقتها ؟ كم أغضبتَ والديك ولم ترضِهِما
؟ كم قسوتَ على ضعيفٍ ولم ترحمه ؟ كم من الناسِ ظلمتَه ؟ كم وكم ...؟
إنا لنفـرحُ بالأيـامِ نقطعُـها *** وكـلَّ يومٍ يُدني من الأجـلِ
فاعمل لنفسِكَ قبلَ الموتِ مجتهداً *** فإنما الربحُ والخسرانُ في العملِ
السبت، 17 أكتوبر 2020
محاسبة النفس 6
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق