موسوعة المؤرخين (23)
ابن تيمية مؤرخًا
الكثير ممن سَمِع عن ابن تيمية رحمه الله (ت: 728هـ) يعلم أنه فقيه كبير،
وله باع في مسائل الاعتقاد والمناظرات، ولكن الكثير لا يعلمون الجانب
التاريخي عند ابن تيمية.
ابن تيمية وتاريخ الدول والرجال
فقد كان لشيخ الإسلام ابن تيمية اعتناء بتاريخ الدول والرجال، وما سلف
من كافة الأمم والشعوب، فمن يقرأ بعناية مؤلفات ابن تيمية يلحظ اهتمامه
بتاريخ ما قبل البعثة المحمدية، وأن له منهجية ورؤية في علم التاريخ، حتى
القضايا العميقة لأهل التخصص له آراء معتبرة فيها، فتجده على دراية
بأحوال الرجال من الأمراء والسلاطين، وله معرفة بطائع المجتمعات
حتى ولو كانوا من دول غامضة ليست معروفة عند الكل.
فهو لم يتوفر على الكتابة في التاريخ بمعناه الشمولي، وإنما اقتصر جهده
على مسائل وملخصات مُركزة وموجزة، فالناظر في تراثه يُدرك تمامًا مدى
التزامه بقواعد المنهج العلمي في النقد التاريخي، فملكة النقد عنده جعلته
لا ينحاز للعواطف غير الموضوعية، وليس سردًا للأحداث وحسب
بل تتضمن نقدًا وتقييمًا.
منهج ابن تيمية التاريخي
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أمانة في النقل وذكر الأقوال الواردة
في الموضوع، كما أنه ينقل الرأي الآخر وإن كان لا يرتضيه.
فمثلًا: حين سُئِل عن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان قال: "أن الناس افترقوا
في يزيد ثلاثة فرق: فالفريق الأول يقول: إنه كان كافرًا منافقًا، والفريق
الثاني يقول: إنه كان رجلًا صالحًا وإمامًا عدلًا، وادّعى بعضهم أنه كان
صحابيًا، أما الفريق الوسط فيقولون: إنه كان ملكًا من ملوك المسلمين له
حسنات وسيئات ولم يكن صحابيًا ولم يكن كافرًا، وهذا قول أهل العقل والعمل
والسنة والجماعة".
نظرة ابن تيمية للتاريخ
إن ابن تيمية رحمه الله صاحب نظرة تفيد أن التاريخ سجل لأعمال الأنبياء
والرسل، وأن الحضارات من صنعهم، وبقدر الاقتراب أو الابتعاد من تنفيذ
الرسالات السماوية التي نيطت بهم، تنهض الحضارات الإنسانية أو تندثر،
فمسار التاريخ عند ابن تيمية يمضي على أقدام الرسل والأنبياء.
ويُقرر أن البشرية لم تنقطع صلتها بالأنبياء على طول تاريخها، مع تواتر
أخبارها، فصار ظهور الأنبياء مما تؤرخ به الحوادث في العالم لظهور أمرهم
عند الخاصة والعامة، فإن التاريخ يكون الحادث المشهور الذي يشترك
الناس فيه ليعرفوا به كم مضي قبله وبعده، وهذا من جميل تفسير
ابن تيمية للتاريخ.
وبنظرة دقيقة للتاريخ الإسلامي يبرهن ابن تيمية على أن اتباع محمد
صلى الله عليه وسلم أدعى للعلم والتوحيد والسعادة، ويعني بذلك المقارنة
بين الصحابة والتابعين لهم، وبين المتكلمين والفلاسفة، ويقف أمام أحداث
تاريخية فيعللها بسبب مخالفة الأصول الإسلامية في القرآن الكريم وما صح
من السنة النبوية، فيرى أن انقراض دولة بني أمية كانت بسبب
الجعد بن درهم والجهم بن صفوان، إلى جانب أسباب أخرى.
وربما يعني بذلك أن العقيدة خمدت في النفوس، وفقدت فاعليتها عما كانت
لدى المسلمين الأوائل، ظهر الضعف في الأمة.
ويمضي شيخ الإسلام في تفسير الأحداث التاريخية، فيذكر أن محنة القرآن
كانت بداية لتشجيع القرامطة الباطنية في إظهار آرائهم بعد ترجمة كتب
الفلاسفة، ولمّا تضاءلت العقيدة في النفوس وأصابها الوهن، هان المسلمون
على أعدائهم وغزا الصليبيون والتتار أراضي الإسلام.
ومن خلال هذه اللمحة الموجزة لموقف ابن تيمية من التاريخ نجد أنه يُحذِّر
من مخالفة الأوامر الإلهية، وأن السبيل القويم لقيام واستمرار حضارة المسلمين
إتباع ما أنزله الله من الهدى والبينات.
الجمعة، 9 أبريل 2021
موسوعة المؤرخين (23)
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق