الأم الصابرة
خرجوا يحدوهم الشوق إلى بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج والعمرة،
خرجوا وكلهم يتمنى أن يقف أمام البيت الحرام يدعوا ويصلي ويتأمل
في هذا المكان العظيم الذي طالما سمعوا عنه ولم يروه، جمعوا كل ما
لديهم من مال في هذه الرحلة العظيمة.. التي تستغرق الكثير من الوقت
فهم يذهبون في قوافل إلى مكة المكرمة، وهذا ما جعلهم على مدى عدة
سنوات يدخرون جزء من نفقاتهم مع حاجتهم الشديدة.. لكن في سبيل
أداء مناسك الحج يهون عليهم كل شيء، وهاهم يخرجون وقلوبهم تخفق
شوقا وحنينا وسعادة، ويستعذبون عناء السفر الطويل من أجل الوصول
إلى بيت الله الحرام، ويتمتعوا بأداء المناسك التي يصعب على كثير
من المسلمين الفقراء الذين يسكنون في مشارق الأرض ومغاربها أن
يؤدوها.. لطول المسافة وكثرة النفقات التي يحتاجونها..لكن هؤلاء مع
فقرهم إلا إنهم سعوا لذلك حتى تمكنوا منه، ولكن ما نغص عليهم فرحتهم
أن أحد أفراد هذه العائلة الكبيرة قد أصابه الإعياء والتعب وزاد عليه الألم
واشتد بسبب سوء ظروف السفر وعدم وجود الأدوية.. وفي منتصف
الطريق توفي قبل أن يكحل عينيه ببيت الله الحرام ويقضي أسعد أوقاته
بطاعة الله، وأداء مناسك الحج العظيمة التي طالما تمناها وحلم بها..
وخلف وراءه زوجته الثكلى وطفلين صغيرين.
.لقد فجعت هذه الزوجة في زوجها الذي لم يكن معها محرم سواه
واحتارت ماذا تفعل؟ فهل يمكنها العودة إلى الوطن؟ أو أنه لابد
من مواصلة الطريق وهي في حداد وحزن على زوجها المتوفى.
لكن بعض أقارب زوجها ممن كان معها أشار عليها أن تكمل الطريق
فلا يوجد منهم من يضحي بهذا الرحلة التي يمكن أن لا تتكرر مرة أخرى
ليصحبها إلى بلادها، فعلمت أنه لابد لها من إكمال الطريق وبعد الحج
تعود معهم.. بقيت معهم كالغريبة بعد أن فقدت عائلها، ولم تكن تستطيع
طلب أي شيء منهم مهما كانت في حاجته إلا أن يعطوها هم أو يعطوا
أطفالها.. وبعد رحلة الحج الشاقة وما فيها من متاعب وصلوا إلى بيت الله
الحرام، فطرحت نفسها بين يدي الله تطلب رضاه ومغفرته وتطلب عونه
ومدده، وأن يعطيها الصبر والقوة للتحمل حتى تعود إلى ديارها وأهلها،
وأن يحفظ أطفالها ويقدرها على تربيتهم على الخير والصلاح..كانت كلما
حاصرها الحزن والهم والحاجة لجأت إلى الله تعالى تدعوه وتستغيث به
فيخفف آلامها وأحزانها..وبعد انتهاء الحج عاد أقارب زوجها إلى بلادهم
ولم يصحبوها معهم فرارا من الإنفاق عليها وعلى أبنائها، وبقيت هي
لا تدري إلى أين تذهب بأطفالها في هذا المكان الذي لا تعرف به أحدا..
أغلقت في وجهها الأبواب فلجأت إلى الله تدعوه وتستغيث به فهي غريبة
ووحيدة ولا تدري كيف تعمل هي وأبنائها؟.. وكيف تطعمهم وأين تسكن
بهم؟..فلم تجد سوى أن تذهب بهم إلى أحد المطاعم ليعملوا بها.. وقالت
لصاحب المطعم: أنا لا أريد منك مالا ولكن أريدك أن تطعم هؤلاء الصغار
مقابل عملهم معك، وافق صاحب المطعم على عملهم لديه وأن يتكفل
بإطعامهم مما يتبقى من طعام جيد، وكان يعطيهم في نهاية الدوام بعضا
منه فيذهبون به لوالدتهم..وأخذت والدتهم تبحث عن مكان تسكن فيه
هي وأطفالها فوجدت عُشة صغيرة في إحدى الجبال ..
فحمدت الله وسكنت فيها مع أطفالها وفي الصباح تبدأ رحلتهم الشاقة..
فالأطفال يذهبون للعمل في المطعم مع ضعفهم وصغر سنهم، والأم تبحث
عن عمل في المنازل لكي تسد حاجتهم الضرورية.. وبعد البحث المضني
وجدت عملا في عدد من المنازل، وكان عملا شاقا عليها ومرهقا لها
لكنها صبرت وتحملت.. فقد كانت تتمنى من الله أن يوفقها لتعليم أبنائها
وتربيتهم تربية صالحة.. ومع مرور الوقت جمعت الأم بعض المال
وأدخلت أبنائها المدارس الأهلية التي تكلف الكثير من المال؛ لأنهم ليسوا
من أهل البلاد، ولن تقبلهم المدارس الحكومية غالبا، وكانت تحرم نفسها
من كل شيء وترهق نفسها بكثرة العمل؛ لكي توفر لأبنائها متطلبات
الدراسة، ومما ساعدها على ذلك أن صاحب المطعم الذي يعمل به أبنائها،
أصبح يعطيهم مرتبا صغيرا بعد أن رأى جد الأطفال ونشاطهم في العمل،
وقد كان هذا المبلغ يساعدهم على نفقات المدرسة الكثيرة، لقد كانت الأم
تدعو الله دوما أن يبارك لها في أبنائها ويكرمهم بالنجاح والتفوق
ويعوضها عن صبرها خيرا من عنده، لقد كانت تعاني أشد المعاناة
من مشقة العمل وصعوبته فقد كانت تعمل في أكثر من منزل في آن واحد،
وتجمع المال ثم تنفقه جميعه على تعليم أبنائها الذي يتطلب الكثير من
المال كلما تقدموا في المراحل الدراسية، ولم تكن تبقي لنفسها شيئا..
لكن تفوق أبنائها ورغبتها في رفع مكانتهم بالعلم وتوفيق الله لهم كان
يخفف عنها الآلام ويمسح عنها الأحزان التي تلاقيها.. بقيت على هذا
الحال عدة سنوات حتى تخرج أبنائها واعتلوا أرقى المناصب.. فقد كان
أحدهم مهندسا والآخر طبيبا، وفتح الله عليهم من رزقه من حيث لم
يحتسبوا وعوضهم خيرا عن أيام التشرد والحرمان التي ذاقوا هوانها..
وأصبحت والدتهم تفخر بهم وتعتز فقد حقق الله لها ما تمنت فقد أصبحت
أم الطبيب والمهندس بعد أن كانت مشردة هي وأطفالها لا تدري أين
تسكن ؟.. ولا كيف تطعم صغارها؟.. وسكنت وأطفالها سنوات في عُشة
يشتكي الفقر من فقرها.. تحرقهم الشمس بحرها ويقرصهم الشتاء ببرده،
واشتكى جسمها الضعيف من قلة الراحة ودوام النصب، ومرت عليهم أيام
لا يجدون ما يأكلون .. يمرضون فلا أحد يسأل عنهم، ويجوعون ولا أحد
يطعمهم، ويحزنون ولا أحد يواسيهم..لقد ذاقت من مرارة الحاجة
والحرمان وذرفت دموع الذل والهوان ما جعلها تقدر كل نعمة أنعم الله
بها عليها، وتحمد الله عليها وتتذكر الفقراء والمحتاجين والمشردين فلا
تبخل عليهم.. ولقد كان اعتمادها على الله وكثرة دعاءها وعظيم صبرها
أكبر الأثر في صمودها وقوتها ومواصلة طريقها الشاق للرقي بمستوى
أبنائها حتى عوضها الله تعالى، فأصبحت تتحدث بنعم الله عليها وتنسب
له كل فضل وخير منّ به عليها وتحمده في كل وقت .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق