لا
تكون الفراسة إلا بتفريغ القلب من هَمّ الدنيا ، وتطهيره من
أدناس
المعاصي
وكدورة الأخلاق وفضول المباحات ، وعندها يجري على مرآة
القلب
كل حق لا خيال ، لأنه تقلب بين آيات الحق وأنوار الطاعات فانهالت
عليه
الفيوضات والإشراقات ،
ومثل ذلك قول ابن عباس
رضي الله عنه :
ما سألني أحد عن شيء إلا
عرفت أفقيه هو أو غير فقيه.
وما
رُوِي عن الشافعي ومحمد بن الحسن أنهما كانا بفناء الكعبة
ورجل
على باب المسجد فقال أحدهما :
أراه نجارا ، وقال الآخر
: بل حدادا ، فتبادر من حضر
إلى الرجل فسأله فقال :
كنت نجارا وأنا اليوم حداد!!
ورُوي
عن جندب بن عبد الله البجلي أنه أتى على رجل يقرأ القرآن
فوقف
فقال :
من
سمَّع سمَّع الله به ومن راءى راءى الله به ، فقلنا له : كأنك
عرَّضت
بهذا
الرجل ، فقال : إن هذا يقرأ عليك القرآن اليوم ويخرج غدا حروريا
؛
فكان
رأس الحرورية واسمه مرداس.
ورُوِي
عن الحسن البصري أنه دخل عليه عمرو بن عبيد فقال :
هذا
سيد فتيان البصرة إن لم يُحدِث ، فكان من أمره من القدَر ما كان
حتى
هجره عامة
إخوانه.
وقال
لأيوب :
هذا
سيد فتيان أهل البصرة ولم يستثن.
ورُوِى
عن الشعبي أنه قال لداود الأزدي وهو يماريه :
إنك
لا تموت حتى تُكوى في رأسك وكان كذلك.
ورُوي
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه قوم
من
مذحج فيهم الأشتر فصعَّد فيه النظر وصوَّبه وقال
:
أيهم هذا؟ قالوا : مالك
بن الحارث فقال : ما له قاتله الله!
إني
لأرى للمسلمين منه يوما عصيبا ، فكان منه في الفتنة ما
كان.
ورُوِي
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه :
أن أنس بن مالك دخل عليه
وكان قد مر بالسوق ، فنظر إلى امرأة
فلما نظر إليه قال عثمان
: يدخل أحدكم علي وفي عينيه أثر
الزني!
فقال له أنس : أوحيا بعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال
:
لا ! ولكن برهان وفراسة
، وصدق ، ومثله كثير من الصحابة
والتابعين رضي الله عنهم
أجمعين .
من
ألوان الفراسة
التفاعل
مع الأحداث اليومية :
صاحب القلب الحي إذا رأى ظلمة حسبها
ظلمة
القبر ، وإذا وجد لذة ذكر نعيم الجنة ، وإذا صرخ من ألم خاف
عذاب
النار ، وإذا شمَّ شواء ذكر جهنم ، وإذا رأى ضاحكا على معصية
رقَّ
لحاله في الآخرة ، وإذا رأى مطيعا على فاقة
استبشر
بنعيمه في الجنة.
كان
عمر بن عبد العزيز من أرباب القلوب الحية وكان واقفا مع سليمان
بن
عبد الملك ، فسمع سليمان صوت الرعد فجزع ووضع صدره
على
مقدمة الرحل ، فقال عمر وهو المعتبر المتدبر بكل ما حوله
:
هذا صوت رحمته فكيف إذا
سمعت صوت عذابه؟!
ومثله
الحسن البصري الذي روى عنه سلام :
"
أُتي الحسن بكوز من ماء ليفطر عليه ، فلما أدناه إلى فيه بكى ؛
وقال
: ذكرت أمنية أهل النار؛ قولهم :
{
أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ }
[
الأعراف : 50 ]
،
وذكرت ما أُجيبوا :
{
إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ
}
[ الأعراف : من الآية50)
" .
إن
حياة القلب تمنح العين حياة فوق الحياة وبصيرة فوق البصر ،
فإذا
هي مثل عين أبي الفرج بن الجوزي الذي أبصر
وتبصَّر
فقال حاكيا إحدى تأملاته
التي لا يدركها إلا من كان مثله :
"
رأيت كل من يعثر بشيء أو يزلق في مطر يلتفت إلي ما عثر به فينظر
إليه
طبعا موضوعا في الخلق ، إما ليحذر منه أن جاز عليه مرة أخرى
أو
لينظر - مع احترازه وفهمه - كيف فاته التحرز من مثل هذا ، فأخذت
من
ذلك إشارة وقلت : يا من عثر مرارا .. هلا أبصرت ما الذي عثَّرك
فاحترزت
من مثله ، أو قبَّحت لنفسك -مع حزمها- تلك الواقعة " .
قراءة
الرسائل الربانية :
وصاحب القلب الحي إذا وفّقه الله لطاعة
سأل
نفسه : بأي عمل صالح أثابني الله بهذه الطاعة؟ أبدعوة إلى خير أم
بصلاة
ليل أم بسعي في حاجة مسلم أم بعفو عن مسيء أم بإنظار معسر؟!
فيراجع
شريط ذكرياته ليُكرِّر صالح أعماله فينعم بنفس الثواب مرات
كثيرة
، وقد جعل الله ثمارا عديدة تربو على الخمسين لمن حرس ثغور
قلبه
من عدوه ، ولم يُدخِل منها سوى الحسنات الموالية للقلب والعاملة
على
مصلحته ومنفعته ، لكن قضى الله أن لا يتذوق لذة هذه
الثمرات
إلا من زكى قلبه وسمت
روحه ،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق