في
نهايات القرن الماضي كثرت الدراسات الاجتماعية والنفسية
عن
التأثيرات الإيجابية
والسلبية للتلفاز، وبين جدل محتدم لم يستطع أحد
أن
يتجاهل المكاسب الجمة
التي حققتها الشاشة الصغيرة في حياتنا، حيث
بات
العالم في متناولنا، وتعمقت ثقافتنا بشكل ملفت، وازدادت الآفاق
المعرفية،
الأمر الذى جعل ستالين أحد قادة روسيا يقول:
«أعطني
شاشة أغير بها وجه العالم».
لكن
في المقابل لا ينكر أحد التأثيرات السلبية لساعات المشاهدة
التلفازية
الطويلة
خاصة على الأطفال، الذين أصيبت أجسامهم بالترهل، وحرموا
منافع
اللعب المكون الأساسي لشخصياتهم، فضلا عن الميل للكسل،
وفقدان
لغة التواصل الاجتماعي وإعلاء ثقافة الاستهلاك .. وغيرها
من
كبوات يطول ذكرها.
ومع
ظهور الكمبيوتر والإنترنت أعاد التاريخ نفسه سريعا، بل برزت
الإيجابيات
والسلبيات بشكل أكثر عمقا من ذي قبل، وهذا يرجع بالأساس
إلى
لغة التواصل أو التفاعل بين الكمبيوتر وجليسه، عكس التلفاز
القائم
على
التلقي الأحادي فقط من المشاهد، يضاف إلى ذلك أن الكمبيوتر يسهل
صنع
الإنجازات بل والبطولات أحيانا .. فمن اليسير أن تكون لك مدونة
تعرض
فيها آرائك، وأن تجد موقع ينشر لك روائع صور التقطتها عدسة
جوالك،
وأن تجد من يسمعك ويتواصل معك، ومن يصنع منك بطلا ينتصر
على
الأشرار في لعب إلكترونية غاية في الروعة
والإبهار..
لكن
على الجانب الآخر ظهرت مع طول الجلوس مع الأصدقاء
الإلكترونيين
أمراض عضوية تعرف بأمراض الكمبيوتر،
وإدمان
نفسي للإنترنت، وانسحاب من الحياة الاجتماعية بدرجات
مختلفة،
وإباحية في بعض الأحيان.
لقد
أصبحنا جميعاً في دائرة تأثير «أيديولوجيا الإنترنت» كما يسميها
الباحث
الفرنسي (برنار بوليه)، فإن الأفراد يصبحون فاعلين في نشر
الأخبار
والمعلومات وفي استقبالها في وقت واحد، وهذه الإيديولوجيا
تشكل
وعداً كبيراً بالمساواة وجنة التعبير دون هيئة رقابة، وهي تؤسس
ليوتوبيا
سياسية متكاملة تصنع ديمقراطية بأنقى الأشكال الممكنة.
والجميع
في عالم هذه الأيديولوجيا متساوٍ .. إنه عالم تذوب فيه
الانتماءات
القديمة وتختفي المراتب ليحل محلها أداء شبكي الطابع.
ولنأخذ
مثالاً من تويتر، فاللغة المشتركة لمستخدمي الموقع تركِّز على
عدد
المتابعين والمتداولين أكثر مما يحمله الموقع من أفكار جدية أو
تعليقات
أو معارف مبتكرة.
وفي
المجمل لا يسعنا إلا أن نعترف بانتصار هذه التقنيات رغم
سلبياتها،
وأنها
صارت جزء من حياتنا لا يمكن تجاهله أو معاداته، وبات من
الحكمة
الحديث الآن عن «التوظيف الجيد» لهذه المستجدات الإلكترونية،
كي
نقطف أطايب ثمرها، ونتجنب مر حنظلها.
لقد
صارت لغة التوظيف الجيد محط أنظار الجميع، حيث تتعدد الأفكار
والمقترحات
حول حيثيات هذا التوظيف، من قوانين صارمة تتعلق بتحديد
ساعات
الجلوس أو نوعية المواقع أو طبيعة البرامج المستخدمة مرورا
بأفكار
ومقترحات من شأنها إحداث توازن بين هذا العالم الافتراضي
وعالمنا
الواقعي.
لكن
تظل في النهاية «صيحة الإنجازات» هي الأعلى صوتا، والتي تعني
الاستفادة
القصوى من هذه التقنيات في زيادة رصيد إنجازاتنا الحياتية،
بما
يعود علينا بمردود مادي أو فكري أو ترفيهي نفسي، مثل عمليات
التجارة
الالكترونية أو الخدمات الإعلانية والدعائية على الشبكة
العنكبوتية،
والاستفادة من التعلم واستذكار الدروس عبر المواقع
المتخصصة،
أو الاشتراك في تحرير المواقع التي تناسب ميولنا ورغباتنا
..
في محاولة لربط الفرد بهدف بناء وإيجابي يستحوذ على ساعات
جلوسه
على الإنترنت، بدلا من التسكع بين المواقع، والتقاط الغث
والسمين،
ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فالنفس
إن
لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.
ومن
التجارب النافعة للطفل (سن 12 سنة فأكثر) في هذا
المضمار
تجربة
إنشاء مدونة تحمل اسمه وصورته، وتصير عالمه الافتراضي
الذي
يسبح فيه باختياره وإرادته، ويشكل ملامحه بأنامله وأفكاره ..
يدون
خاطرة
تمر بذهنه أو يعلق على صورة حركت مشاعره، أو يكتب
بموضوع
يعمق ثقافته ويوسع مداركه.
أما
كيفية الكتابة فتكون
تجميعية أكثر منها
ابتكاريه ابداعية، حيث يحدد الطفل موضوع معين،
وليكن
فرضا «دباغة الجلود» ثم يبدأ عن طريق محركات البحث أن
يستعرض
الكثير من المواقع التي تناولت هذا الموضوع، وكلما مر بفقرة
جديدة
عليه التقطها ووضعها في المدونة تحت هذا العنوان، ومع مرور
وقت
غير طويل سيجد الطفل أنه تم تجميع نقاط غزيرة وقيمة في
موضوع
دباغة الجلود.
هذه التجربة التربوية
المبتكرة
تجمع الكثير من الفوائد
التي من أبرزها :
تيسير
صنع الإنجازات مما يحفز رغبة الطفل لمزيد من المعرفة والإطلاع،
فضلا
عن تدعيم مهارة القراءة والمطالعة التي غابت عن أجيالنا،
وتعميق
ثقافة الطفل واتساع
معارفه، وانغماسه في عملية تربوية علمية تعليمية
على
رغبة منه وتحديد لنوعها وزمانها، وهذا مما يفتح شهيته للمعرفة
عكس
المناهج الدراسية التي تفرض عليه فرضا وإلزاما.
ولا
أستطيع أن أصف لكم مقدار السعادة في عيون اليافع الصغير عندما
تزداد
أعداد زوار مدونته يوما بعد يوم، أو عندما يجد تعليقا من أحد
الزوار
على موضوع من موضوعات مدونته، وقد أرسل المعلق في طيات
تعليقه
نسمات الشكر والاعتزاز، أو عندما تترشح مدونته لمكانة
مرموقة.
لقد
بات ارتباط أطفالنا بعمل إيجابي على الإنترنت من الضروريات
الملحة
الذي
يمثل سياجا واقيا من نيران الإنترنت المتأججة، خاصة فن المدونات
الذي
يمثل حقلا معرفيا تنمو فيه مختلف النباتات الثقافية على رعاية
وعناية
من الطفل نفسه، وبكده وعرقه، ويجد فيها ذاته، ويتحبب إلى
المعلومة
التي صارت السلاح الفعال في عالم لا يرحم
الجهلاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق