حدثتني جدتي
أنَّ كريماً وبخيلاً ترافقا في سفر ، ثم سَارا ما
شَاء الله لهما أَن يسيرا ،
وجلسا
يستظلان في ظل شجرة ، فأخرج الكريم زاده
وقال للبخيل :
نأكلُ زادي أولاً ، ثم إذا كان الليلُ أكلنا زادك
…
وحين ودعتْ الشمسُ وهج الحُمرة ، وأرخى الليل سُدوله
، قرر البخيل
أن يأكل الزاد وحده ، متذرعاً أنَّ السفر طويلٌ
والجوع شديد ، فغضب
الكريم وقرر أن يفارقه ، وهكذا كان مشى الكريمُ تحت
جنح الظلام إلى
أن
وصلَ إلى طاحونةٍ مهجورةٍ ،
فقال
في نفسه : أبيتُ
الليلةَ هنا ،
وحين يصبحُ الصَّباح سيقضى الله أمراً كان مفعولاً
،
ثم صعد
إلى حُجرةٍ مرتفعةٍ من الطاحونة ، وقبل أن يستسلمَ للرقادِ
بدأت
مجموعة من الحيواناتِ المفترسةِ تدخلُ إلى الطاحونة
تِباعاً : الأسدُ ،
النَّمرُ ، الفهدُ ، الضَّبعُ ، الثعلبُ ،
النمسُ وابن
آوىوبعد أن اكتملَ النِّصابُ
، وقفَ
الأسدُ قائلاً :ـ
السلام عليكُم معشرَ الغَاب ،
حللتُم أهلاً ووطأتم سَهْلاً ، فمرحباً بكم في
اجتماعنا الشَّهري !
ثمَّ أردفَ قائلاً : لقد اطلعتُ على تقاريرِكُم ،
وأعجبني حسنُ تدبيرِكُم
للأمور ، وحصَافتكم في التعاملِ مع الرَّعية ، وأنا
أَشكرُ لكم جهودكم ،
وأشدُّ
على أياديكم ، وأهيبُ بكم أن تحافظوا على علو همتكم !
والآن إن كان لدى أحدكم ما يطلعنا عليه فليفعل
!
قال
الضَّبعُ : يا ملكَ الزمان ، في المنطقةِ التي تكرَّمتَ عليَّ
بإدارة
شؤونها ، فأرٌ يملكُ مئةَ ليرةٍ ذهبيةٍ ، يُخرجُها مع
شروقِ الشمسِ ليرةً
ليرةً ، ثم يتركها في الشمسِ ساعةً ، ويعيدها إلى مكانها
…
قال النَّمرُ : أيها الملكُ الرشيدُ ذو
الرأي السَّديدِ ، في المنطقةِ التي أَوكلتم
للعبدِ الفقير إدارتها ، ملكٌ من بني البشر ، جبارٌ
رعديد ، كثيرُ الأعوان ،
مسموعُ الرأي مُطاع ، غير أنَّ له ابنة قد عجزَ
الطبُّ عن شفائِها ،
وقد
وعد الملكُ أنْ يزوجها ممن يشفيها من علتها ،
ودواءُ الأميرةِ – يا ملك الزمان – دماغ كلبٍ برأسين
يملكه
راعٍ
بمنطقةِ كذا …
قال النّمسُ : يا مَنْ اشترى قلوبَ الرَّعيةِ بالعدلِ
، وأطفأَ غلَّهم بالمساواة ِ،
في منطقتي شجرة لا تثمر ، جذورها ضَاربة عبابَ التراب
، وأغصانها
ناطحة أسبابَ السَّماء ، وتحتَ الشَّجرة كنز لا يتسِعُ له مجلسك
المبارك
قالَ الثَّعلبُ : السَّلام على الملكِ
الذي طوَّع الرعيَّة بعدلِه ، وخوَّف
العصاةَ بزئيره ، لقد تنكَّرتْ الطرائدُ ، وتفننتْ في الهرب ،ولم
يعدْ
بالإمكانِ الوصول إليها إلا بِشِقِّ الأنفس
…
قال
ابنُ آوى :
يا عاليَ المقام ، فَصَلَ البشرُ بسياجٍ بيننا وبين
الدجاج ، وإنَّ
قومي
يتضورون جوعاً ، وقد صارت بنات آوى تأكل
الثِّمار والخُضار
قالَ
الذئبُ : أيها الملكُ الذي غطى الغابَ بعباءةِ عدله ، وتكرَّم
على
الرَّعيةِ بواسع صبره ،كَثُر القنصُ في منطقتي ،
والرعيةُ هناك تشكو إليك
ظلم بني آدم ، فلا تتأخرْ عنهم ، فما عهدَكَ القومُ إلا
حامياً للأعراضِ ،
منكِّساً لرؤوسِ عِداك …
كلُّ
هذا الحديثِ والكريمُ منصتٌ مستمعٌ
من مكانِه ، حابسٌ أنفاسَه كي
لا تفتكَ به براثِنُ الوحوشِ الكاسرة وبعدَ أن
عَسْعَسَ الليلُ ما شَاءَ الله له
أن يُعَسْعِس ، وتنفَّسَ الصباحُ بأمر من شرعَ له
التنفس ، انفضَّ الجمعُ
وسارَ كلٌّ في طريقِه ، فتوجَّه الكريم إلى حيثُ
الفأر ، فوجدَه –
على
وصفِ الضَّبعِ – يخرجُ الليراتِ الذهبية ليرةً ليرةً
، ولمَّا أتمها
مئة تناول
الكريمُ حجراً ورمى به الفأر فأرداه ، وأخذَ الليرات
وتوجَّه إلى حيثُ
الراعي نظرَ الكريمُ إلى الكلبِ فعرفَه بصفاتِه ،
فعرضَ على الراعي
أن
يبيعَه إياه
بعشرِ ليراتٍ ذهبية ، فسارعَ الرَّاعي إلى القبول ، واصطحبَ
الكريمُ الكلبَ إلى ظلِّ شجرةٍ بعيدةٍ عن
الطريقِ فقتله
، وأخرجَ دماغَه
ووضعَه في زجاجةٍ فارغةٍ كان قد أحضرهَا لهذا الغرضِ
ثم توجَّه إلى
المَلك وقال له :ـ بلغني أنَّ مرضَ الأميرة أعجزَ
الأطباءَ ، فماذا أنتَ فاعل
إن استطاعَ العبدُ الفقيرُ أن يشفيها
؟
قالَ الملك ُ: إن شفيتَها فهي زوجة لك
،
وإن كنتَ ممن يدعون الطبَّ قطعتُ رأسكَ
!
وافقَ
الكريمُ شريطةَ أنْ يعالجها في غرفةٍ لا يراهُمَا فيها أحدٌ إلا
الذي
لا يخفى عليه شيءٌ في
الأرضِ ولا في السِّماء دخلَ الكريمُ الغرفةَ وأخذَ
يدهنُ الأميرةَ بدماغِ الكلب فأخذت تتحرك ، ثم صبر
ساعةً وأعادَ دهنَها
أُخرى ففتحتْ عيناها ، ثم صبر ساعةً ودهنَها
أُخرى فتكلمت ، ثم صبر
ساعةً ودهنها فقامت – بأمر من خلق العلة والدواء
– وكأنها لم تكن
تشكو علةً من قبل ! أحضرَ الملكُ القاضِي وعقد
للكريمِ على ابنتِه
صبيحةَ اليوم التالي
قال الكريم للملك : أي عم
،
إنَّ
بأرضِ كذا من مملكتك شجرة أوصافها كذا وكذا
،
تحتها كنز بصفات كذا وكذا
فأرسلَ الملكُ مع الكريمِ قائدَ الجيشِ وجنودَه
وكثيراً من العمال ،
فحفروا ،
واستخرجوا الكنز ، ووزع الكريمُ قسماً منه على العمال
الذي حفروا ، وللمفارقةِ وجد صاحبه البخيلَ بين
العمال ، فأجزل له
العطاءَ ، فرفضَ البخيلُ أن يأخذَ شيئاً قبل أنْ يقصَّ عليه قصته ،
وكيف وصل إلى هذا العزّ الذي هو فيه فقصَّ الكريم على
البخيل القصة
وما كان من حديثِ الطاحونة ، فخرج البخيلُ مسرعاً إلى
الطَّحونة ،
وكان قد مضى شهر بالتمام والكمال ،ولما اكتملَ
النصابُ طلبَ الأسد
من
الحيواناتِ الحديثَ ،
فانبرى
الذئب قائلاً : يا
ملكَ الغاب كيفَ نُحدِّثك
، وفي
المرة الماضيةِ
حدثناك فقُتِل الفأرُ والكلبُ وأُخرجَ الكنزُ ، أظنُّ
أنَّ أحداً ما يسمعنا ،
فنبشوا
أرجاء الطاحونة فوجدوا البخيل وقطعوه إرباً
.....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق