الأحد، 8 ديسمبر 2019

سلسلة أعمال القلوب (45)

سلسلة أعمال القلوب (45)


سادسًا: صعوبة الإخلاص:

الإخلاص أمر عسير شاق على النفس،

صعب عليها، يحتاج صاحبه إلى مجاهدة عظيمة، ويحتاج العبد معه

إلى مراقبة للخطرات والحركات، والواردات التي ترد على قلبه،

فيحتاج إلى كثرة تضرع لله عز وجل- كما سيأتي-


يقول أويس القرني رحمه الله:

'إذا قمت فادعو الله يصلح لك قلبك ونيتك،

فلن تعالج شيئاً أشد عليك منهما' .


أويس القرني هذا هو الذي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم

عمر بن الخطاب أن يطلب منه أن يدعو له، وأخبره أنه يأتي في أمداد

اليمن، وذكر له صفته، فكان عمر يترقب ويتحرى حتى عثر عليه،

فكلمه وسأله حتى استيقن أنه هو، وطلب منه أن يدعو له، ثم بعدها

اختفى أويس فلم يعرف له أثر بعد ذلك، اختفى لشدة إخلاصه لما

انكشف أمره خشي أن يتعلق الناس به، وأن يثنوا عليه ويطروه،

وأن يتتبعوا آثاره يطلبون منه الدعاء، أو يطلبون منه أن يستغفر لهم،

وما إلى ذلك، فاختفى في أجناد المسلمين، وخرج غازياً في سبيل الله

عز وجل، ولم يوقف عليه بعدها،


ومع ذلك يقول:

'لن تعالج شيئاً أشد عليك منها' أي: النية .


ويقول يوسف ابن أسباط رحمه الله:

' تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد' .


قد يستطيع العبد أن يجاهد سنوات متواصلة، ولكنه قد يعجز كثيراً،

أو يتعب كثيراً بمراقبة خطراته، وما يرد عليه من المقاصد والنيات،

والواردات التي تقع في هذا القلب. قد يستطيع الإنسان أن يركع ويسجد

ليلاً طويلاً، وأن يصوم النهار، ولكنه يصعب عليه أن يضبط قصده،

وأن يتمحض هذا القصد لوجه الله عز وجل، وقد يسأل بعضكم لماذا

كانت هذه الصعوبة؟ ولماذا كانت هذه المشقة في إكسير العبادة، وفي

سر القبول، وهو الإخلاص؟ لماذا كان بهذه المشقة؟


ولماذا احتاج إلى هذه المجاهدة الكبيرة الطويلة

حتى آخر اللحظات حينما يفارق الإنسان هذه الحياة ؟!!


أقول ذلك لأمور:

أولها: أن الإخلاص لا نصيب للنفس فيه، كثير من الأمور التي للنفس

فيها حظ عاجل قد لا تضطرب على الإنسان فيه نيته، وإنما يُحصل بغيته

بمجرد تعاطيها من ألوان اللذات، أما الإخلاص فالإنسان يجرد نفسه،

ويجرد قصده من كل إرادة والتفات، فلا يلتفت إلى حظ عاجل يرجع إلى

هذه النفس، ولا يريد من الناس أن يُقربوه، أو يُكرموه، أو يُعظموه،

أو يسمعوا عن عمله الصالح، فيطروه على هذا العمل، هو لا يريد

هذا،، فلاحظ للنفس فيه، وبالتالي كان ذلك عسيراً عليها.


أمر ثان سَبَّب صعوبة الإخلاص: وهو أن الخواطر التي ترد على القلب

لا تتوقف، وكما ذكرت- سابقًا- : أن القلب يقال له: الفؤاد لكثرة تفؤده،

أي لكثرة توقده بالواردات، وكذلك قيل له: القلب لكثرة تقلبه فهو كثير

التقلب على صاحبه، فَأَمرٌ بهذه المثابة؛ يصعب على العبد أن يلاحقه،

وأن يضبطه في كل لحظة من لحظاته، وفي كل حركة من حركاته،

ولهذا يقول الإمام الكبير سفيان الثوري رحمه الله تعالى- وهُوَ مَنْ هُوَ

في العبادة والإخلاص يقول- :

'ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي إنها تقلب علي' .

ويقول يوسف بن الحسين رحمه الله:

'كم أجتهد في إسقاط الرياء من قلبي فينبت لي على لون آخر' .

يقول: أجاهدها من هذه الناحية، وأسد هذا الباب، فينبت لي من ناحية

أخرى، فقد يثني عليه بعض الناس ثم يقول من أنا ؟! ما مني شيء ؟!

وليس لي شيء ! أنا المُكَدَّى وابن المُكَدَّى، ثم يقوم يتكلم وهو يحتقر

النفس، وينقدح في قلبه إبراز جانب التواضع والإخبات، وعدم الالتفات

للنفس، وأنه ليس من أهل العجب.

قد يتكلم العبد ويقول: البارحة في ساعة متأخرة من السحر سمعت كذا

وكذا، ثم يقول: لكنى لم أكن في قيام، وإنما قمت لحاجة، هذا يطرد

الرياء كما قال الصحابي لما قال: من رأى منكم الكوكب البارحة فقال:

أنا، أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت، هذا قالها خالصاً من قلبه،

ولكن الإنسان قد يقولها خالصاً فينقدح له وهو يقولها معنى، وهو أنه

يريد أن يظهر نزاهته عن الرياء ليقول للناس: لست من المرائين، فأمرٌ

بهذه المثابة كيف نستطيع أن نضبطه في كل لحظة من لحظاتنا،

وفي كل حركة من حركاتنا ؟


فالإنسان قد يذكر أشياء من جهود طيبة، ومشاريع خيرة والمقام قد

يفهم منه السامع أنه هو الذي قام بها، ثم يستدرك ويقول:عِلماً بأن هذه

الأمور ليس لي منها شيء، ولم أصنع منها شيئاً . هذا كلام جيد ليدفع

عن النفس الرياء، لكن قد ينقدح في نفسه وهو يقول هذا الكلام أمرٌ

آخر يفسد عليه، وهو أنه يبرهن على صحة قصده، ولا أعني بذلك

إطلاقاً أن من قال ذلك، أنه متهم، لكني أريد أن أقول: إن شأن الإخلاص

شأن كبير يحتاج إلى معاناة طويلة مدتها العمر بكامله، وهذه المجاهدة

لا ينفك عنها العبد بحال من الأحوال.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق