شرح الدعاء (91)
{رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}.
هذه الدعوة الطيبة المباركة التي ذكرها اللَّهُ عز وجل في المؤمنين
الصادقين، في سؤالهم لربهم، قد جمعت من المطالب والوسائل الجليلة،
وقد تقدم من ذلك عدّة آيات دلالة على أهمية هذه المطالب، والوسائل،
فتكرارها بين دفتي الكتاب العزيز، بيان من اللَّه الرؤوف الرحيم لعباده
أن يعتنوا بها، بالسؤال والطلب، بين الحين والآخر، فإنّ فيها النجاة
من كل مرهوب، والنيل لكل مطلوب .
وسبب ورود هذا الدعاء الطيّب أن الكفار في النار يسألون الخروج منها،
والرجعة إلى الدنيا، فقال ربّ العزّة والجلال لهم:
{قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} أي امكثوا صاغرين مهانين
{وَلَا تُكَلِّمُونِ}: أي لا تعودوا إلى سؤالكم، ثم بيّن جلّ وعلا علّة تعذيبهم:
{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا ...} يقول الشنقيطي – رحمه اللَّه
– عن قوله: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ ...}: قد تقرّر في الأصول في مسلك الإيماء
والتنبيه أن (إنَّ) المكسورة المشدّدة من حروف التعليل، كقولك: عاقبه إنه
مسيء: أي لأجل إساءته، أن من الأسباب التي أدخلتهم النار
هو استهزاؤهم، وسخريتهم من هذا الفريق المؤمن .
وقوله: {يَقُولُونَ}: دلالة ظاهرة على استمراريتهم في الدعاء،
والإكثار منه في حياتهم الدنيا، كما أفاد الفعل المضارع بعد كان.
{رَبَّنَا آمَنَّا}: أي بك وبرسلك، وما جاؤا به من عندك، قدّموا التوسّل
بإيمانهم قبل سؤالهم؛ لأن الإيمان هو أعظم أعمال القلوب المقتضى
لقبول الدعاء، وحصول الرجاء.
{فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا}: استر علينا مما يوقع من تقصيرنا في حقك وحق
غيرنا فتجاوزه عنا، وتعطف علينا برحماتك التي لا تُعدُّ ولا تُحصى.
{وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}: أكدوا إيمانهم ويقينهم بأنه تعالى خير من رحم،
وفيه دلالة على أهمية التوسل بأسمائه تعالى المضافة في الدعاء؛
فإن فيها من كمال الأدب، والثناء على اللَّه.
تضمّن هذا الدعاء من الآداب الجمة، حيث ((إنهم جمعوا بين الإيمان
المقتضي لأعماله الصالحة، والدعاء لربهم بالمغفرة والرحمة، والتوسّل
إليه بربوبيته، ومنّته عليهم بالإيمان، والإخبار بسعة رحمته، وعموم
إحسانه، وفي ضمنه ما يدل على خضوعهم، وخشوعهم
وانكسارهم لربهم، وخوفهم، ورجائهم)) .
فلمّا قدّموا الصبر مع جميل أفعالهم ودعائهم، كان الجزاء وفقاً
لهذا الصبر: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}.
الفوائد:
1- إنّ التوسّل إلى اللَّه تعالى بالأعمال الصالحة من التوسّلات الجليلة
التي يُرجى معها الإجابة والعطاء .
2- إن التوسّل بالإيمان هو أعظم التوسلات بالأعمال الصالحة،
حيث خصّوا توسّلهم به دون غيره
3- إن سؤال المغفرة من أهم المسائل التي ينبغي للداعي أن يحرص
عليها، كما في أكثر الدعوات في الكتاب والسنة؛ لأن في حصول
المغفرة السلامة من العذاب، وكلِّ المكروهات.
4- إن سؤال المغفرة مقدّم على سؤال الرحمة؛ لأن التخلية
مقدمة على التحلية .
5- ينبغي للداعي أن يختار في دعائه أجمل الألفاظ، وأنبل المعاني،
كما في قوله: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فـ(أنت) ضمير الفصل يفيد:
التأكيد، والحصر المتضمن الثناء والتعظيم للَّه ربّ العالمين.
6- فيه بيان خطورة الاستهزاء بالمؤمنين، وأن مصير ذلك النار،
والعياذ باللَّه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق