موسوعة المؤرخين (11)
ابن تغري بردي (الجزء الثاني)
اشتغاله بعلم الحديث
كما أنه سمع شيئا كثيرا من كتب الحديث، وأجازه جماعات لا تحصى مثل
حافظ العصر شيخ الإاسلام قاضي القضاة شهاب الدين أحمد ابن حجر،
والشيخ الحافظ تقي الدين أحمد بن على بن عبد القادر المقريزى الشافعى،
والحافظ العلامة أبو محمد بدر الدين العينى الحنفى، وأبو ذر عبد الرحمن
بن محمد الزركشى الحنبلى، وعز الدين عبد الرحيم ابن الفرات الحنفى،
وجلال الدين عبد الرحمن بن على بن عمر بن الملقّن، وآخرون.
ومن مسموعاته العوالي كتاب السنن لأبى داود، وجامع الترمذي وشمائل
المصطفى للترمذي كذلك، ومسند ابن عباس، وقطعة كبيرة من مسند أحمد
فى عدّة مجالس. ومن مسموعاته العوالى أيضا كتاب "فضل الخيل" للحافظ
شرف الدين الدمياطى سمعه على الحافظ تقي الدين المقريزى.
علاقته بالتاريخ
شغف ابن تغري بردي بالتاريخ وأحداثه منذ حداثته، وخاصة كتب المؤرخ
بدر الدين العَيني (ت 855هـ/1451م) التي كانت تقرأ في البلاط السلطاني،
ومن أشهرها (عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان، السيف المهند في سبرة
الملك المؤيد، الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر ططر)، "واجتهد
فى ذلك إلى الغاية، وساعده جودة ذهنه، وحسن تصوّره، وصحيح فهمه،
حتى برع ومهر وكتب وحصّل وصنّف وألّف وانتهت اليه رياسة
هذا الشأن فى عصره".
يعد ابن تغري بردي من أظهر تلاميذ أستاذه تقي الدين المقريزي (ت
845هـ/1442م) أعظم مؤرخي العصر ورائد المدرسة التاريخية المصرية.
كما أنه عاصر كبار المؤرخين المصريين الذين ظهروا في عصره أمثال ابن
حجر العسقلاني (ت 853هـ/1449م)، والسيوطي (ت 911هـ/1505م)
وشمس الدين السخاوي (ت 902هـ/1497م) الذي ترجمه في كتابه
"الضوء اللامع" ونقد ما دونه من تراجم وأحداث مبينًا أنه يُرجِّح نفسه
على من تقدمه من المؤرخينمن ثلاثمئة سنة لاعتقاده أنه أعلمهم بمعرفة
الترك وأحوالهم ولغاتهم. وفي ترجمته قال السخاوي: "وقد اجتمعت به
مرارا، وكان يبالغ فى إجلالى اذا قدمت عليه ويخصنى بتكرمة للجلوس،
والتمس منى اختصار الخطط للمقريزى" .
تعلمه الفروسية والموسيقى واللغات
كانت لحياة ابن تغري بردي المترفة والهادئة، ونشأته في بيت العز والإمارة،
واتصاله بالمصاهرة والصداقة مع أسرة السلطان المملوكي وأكابر رجالات
الدولة، أثر كبير في تفرغه للبحث والدرس والمطالعة، مما جعله قادرا على
الاستغناء عن العمل للكسب، فتعلم الفروسية وفنونها، وعلم الفلك والطب،
وأتقن اللغتين الفارسية والتركية وبرع فيهما، وكانت التركية لغة البلاط
والسياسة في ذلك العصر، وهو ما ساعده على النفاذ إلى دقائق الدولة
والسياسة، مما أثر في أبحاثه وكتاباته التاريخية.
ثم دخل بلاط السلطان المملوكي وصار بارعًا في فنون الفروسية، كلعب
الرمح، ورمي النشاب ولعب الكرة والصولجان ونحو ذلك، "وأخذ هذه
الفنون عن عظماء هذا الشأن، وفاق فيهم على أنداده، وساد على أقرانه
علما وعملا".
كما تعلم علوم الموسيقى والشعر وكانت "له اليد الطولى فى علم النغم
والضروب والإيقاع، حتى لعلّه لم يكن فيه مثله فى زمانه، انتهت إليه
الرياسة فى ذلك".
من مناقبه وأخلاقه
وأما عن مناقبه وأخلاقه فقد ذكرها تلميذه وصديقه أحمد بن حسين
التركمانى المعروف بالمرجي بآخر كتاب "المنهل الصافى" لابن تغري
بردي، وقد كتبه بخطه وعليها اعتمد كل من ترجم لمؤرخنا، فقال يصفه بـ:
"الديانة والصيانة والعفّة عن المنكرات والفروج، والاعتكاف عن الناس،
وترك الترداد الى أعيان الدولة حتى ولا إلى السلطان؛ مع حسن المحاضرة،
ولطيف المنادمة، والحشمة الزائدة، والحياء الكثير، واتساع الباع فى علوم
الآداب والتاريخ وأيام الناس، قلّ أن يخلو مجلسه من مذكّرات العلوم.
جالسته كثيرا وتأدّبت بتربيته، وحسن رأيه وسياسته وتدبيره. يضرب به
المثل فى الحياء والسكون، ما سمعته شتم أحدا من غلمانه، ولا من حاشيته،
ولا تكبّر على أحد من جلسائه قط، كبيرا كان أو صغيرا، جليلا كان أو حقيرا.
وصحب بعض الأصلاء الأعيان كالقاضى كمال الدين بن البارزى، وقاضى
القضاة شهاب الدين ابن حجر وغيرهما من العلماء والرؤساء، وتكرّر ترداد
غالبهم إلى بابه، وحضروا مجلسه كثيرا وأحبّوه محبة زائدة، هذا مع ما
اشتمل عليه من الكرم الزائد، والميل إلى الخير، ومحبته أهل العلم والفضل
والصلاح، والإحسان إليهم بما تصل القدرة إليه".
وحج عدة مرات، كانت أولاها سنة 826هـ / 1423م، واشترك سنة 836هـ
/ 1432م في حملة السلطان الأشرف برسباي العسكرية على "الآق
قوينلو" في شمالي الجزيرة السورية، وكانت علاقاته وثيقة مع برسباي
(825 – 841هـ / 1422 – 1437م) الذي منحه إقطاعا، وكذلك ومن تلاه
من السلاطين. ويذكر أنه كان إذا سافر يستخلف فى كتابة الحوادث
ونحوها التقي القلقشندى.
وقد أشار ابن إياس فى تاريخه بدائع الزهور فى وقائع الدهور إلى ترجمة
ابن تغري بردي عند ذكر وفاته فى حوادث سنة 874هـ، فقال: "وفيه كانت
وفاة الجمالي يوسف بن الأتابكى تغرى بردى اليشبغاوى الرومى نائب الشام.
وكان الجمالي يوسف رئيسا حشما فاضلا حنفىّ المذهب وله اشتغال بالعلم،
وكان مشغوفا بكتابة التاريخ وألف فى ذلك عدّة تواريخ، منها تاريخه الكبير
الموسوم بالنجوم الزاهرة؛ والمنهل الصافى؛ ومورد اللطافة فيمن ولى
السلطنة والخلافة؛ وله تاريخ فى وقائع الأحوال على حروف الهجاء؛ وله
غير ذلك عدّة مصنفات. وكان نادرة فى أولاد الناس. ومولده سنة 813هـ" ا.هـ.
الأحد، 28 مارس 2021
موسوعة المؤرخين (11)
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق