السلوك
الإنساني كما يصوره القرآن
لقد
جاءت آيات القرآن الكريم تتحدث في بساطة بأدق
نظريات
علم النفس
الحديث..
ففي
قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك التي قادها رسول الله
صلى
الله عليه وسلم. يصف القرآن معاناة الشعور بالذنب، ويتحدث عن
عذاب
الضمير للثلاثة الذين تخلفوا في دقة مذهلة. فلما مضت الغزوة
أحسوا
بالإثم وعذاب الضمير, وهذه هي النفس اللوامة التي ذكرها القرآن
{وَلَا
أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ(2)}
القيامة ).
والنفس
اللوامة هي التي لا تزال تلوم صاحبها على تقصيره في طاعة الله
مع
بذله جهده، وأشرف النفوس من لامت نفسها في طاعة الله، واحتملت
ملام
اللائمين في مرضاته فهذه قد تخلصت من لوم الله، وأما من رضيت
بأعمالها
ولم تلم نفسها ولم تحتمل في الله ملام اللوام، فهي التي يلومها
الله
عز وجل.
والقرآن
الكريم يقول في هذه الأزمة النفسية التي عصفت بالرجال..
{وَعَلَى
الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ
عَلَيْهِمْ الْأَرْضُ
بِمَا رَحُبَتْ
وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ
مِنْ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ
ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ
لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ(118)}
( التوبة )
.
وفي
سورة "الكهف" تصور الآية مشهد أهل الكهف، وقد تعاقبت عليهم
السنون،
فتحولوا إلى صورة تفزع القلب، وتروع النفس فتقول
{
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ
الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ
وَكَلْبُهُمْ
بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ
لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا
وَلَمُلِئْتَ
مِنْهُمْ رُعْبًا(18)}
( الكهف )
.
وتجيء
أحدث نظريات علم النفس بعد أربعة عشر قرناً لتقول:
إن
الإنسان حينما يفزع من خطر.. فان غريزة حب البقاء تدفعه إلى
الفرار
بعيداً
عن مصدر الخطر.. مجرد إحساسه بالخطر يحشد فيه قوة غير
عادية
لا يمكن أن يحصل عليها في حالات الاطمئنان، وتجعله يأخذ نفسه
بعيداً
بعيداً.. كالذي يقفز من الطابق الثاني إذا ما شعر بأن بيته محاصر
بالنيران..
وقد ينطلق بعد القفز فاراً مبتعداً عن مكمن الخطر.. ثم يتبين بعد
ذلك
أنه قد أصيب أو لحق به أذى.. والآية تحدد بدقة حالة غريزة حب
البقاء
حينما تقول.. لوليت منهم فراراً مما يقع عليه بصرك من
بشاعة
ما فعلته الأيام
بالجثث.. إذ لن تستطيع أن تحدد إن كانوا موتى أو
أحياء..
وموسى
عليه السلام كان ذا شخصية انفعالية سريع الغضب.. وإذا رجعنا
إلى
طفولته وسلطنا عليها أضواء علم النفس الكاشفة.. فسوف نجد أنها
مشحونة
بالتوترات ملأى بالقلق بعيدة عن كل ما يوفر الشعور بالأمان
لطفل
رضيع..
{
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا
خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ
وَلَا
تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ
وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ(7) }
(
القصص ) .
وقد
توصل أحد أطباء الأمراض النفسية للأطفال إلى أن الأم والرضيع
يكونان
وحدة واحدة من الوجهة النفسية، وأن أية انفعالات للأم كثيراً ما
تنعكس
على الرضيع، والأم التي تعاني من القلق أو من الحزن ينصحها
طبيب
الأطفال بعدم إرضاع طفلها فترة حزنها أو قلقها.. وأم موسى هي
التي
قلقت أعظم قلق حينما وضعته في الصندوق، وحينما أرسلت أخته
تتبع
آثاره على الشاطئ.. ثم عاد إليها لترضعه، كل ذلك جعل موسى عليه
السلام
عصبياً.. يثور عند الغضب
{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى
قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا}
( طه
)
.
ويصور القرآن الكريم "الغضب" على أنه من الحالات النفسية التي
يسقط
الإنسان فيها تحت وطأة قوة أقوى منه.. يتملك الغضب فيها ضحيته
ويوسوس
إليه بما يريد.
وفي
سورة يوسف أبدع الصور النفسية لكل الحيل اللاشعورية التي يلجأ
إليها
الإنسان في معاملاته النفسية، والتي يسميها علم النفس آليات
عقلية
يغالب
بها المرء إحباطه، وقلقه، وتوتره الذي يتولد من فشله في
محاولاته
تحقيق رغباته كلها أو بعضها..فإخوة يوسف مثلا ظلوا
ضحايا
الكبت الذي يحاولونه لكي
يدفنوا رغبتهم في التخلص من يوسف حتى
يخلو
لهم حب أبيهم، ولكنهم كانوا يفشلون في إخفائها وكبتها فكانت تبدو
فيما
يصدر منهم من أعمال أو كلمات ضد يوسف عليه السلام. وقد وقعوا
في
حالة (التبرير) التي يقول عنها علم النفس أنها الحيلة التي تقي
الإنسان
من الاعتراف بالأسباب الحقيقية لسلوكه غير المقبول، ويعمد
المذنب
إلى تفسير سلوكه ليبين لنفسه وللناس أن لسلوكه هذا أسباباً
معقولة..
فهم يقولون
{قَالُوا
يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ
عِنْدَ مَتَاعِنَا
فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ
وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ(17)
}.
وإذا
كان الإسقاط هو حيلة يسقط بها المرء نقائصه وعيوبه على الناس
والآخرين..
ويهمه بالدرجة الأولى. أن يلصقها بمن يظن انه ينافسه
مباشرة..
كالزوج الذي يخون زوجته.. ثم يتهمها بالخيانة.. إذا كان هذا
هو
مفهوم الإسقاط في علم النفس.. فإن القرآن الكريم روى ذلك عن أخوة
يوسف.
حينما دس يوسف صاع الملك في متاع أخيه ألقى القبض عليه
بتهمة
السرقة ليستبقيه دون أن يكشف لهم عن شخصيته إذ تقول الآية
الكريمة
على لسانهم
{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ
فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي
نَفْسِهِ
وَلَمْ
يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ(77)}
وحينما
عاد الاخوة ليفجعوا والدهم في ابنه الثاني شقيق يوسف، وأحب
أولاده
إليه بعد يوسف، وقد جددت هذه الصدمة الجديدة أحزانه القديمة
على
يوسف إذ تقول الآية
{وَتَوَلَّى
عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ
وَابْيَضَّتْ
عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ(84)
}
( يوسف ).
مع
انهم نقلوا إليه خبر ابنه الثاني وليس يوسف، وذلك ما يطابق أحدث
نظريات
علم النفس.. وتبيض عيناه من الحزن.. فلم يعد يبصر فقد انتابته
رغبة
في العمى. رغبة قوية سيطرت على إرادته.. فهو لا يريد أن يرى
الدنيا
وقد خلت من ولديه الحبيبين.. وذلك هو العمى النفسي، ويدرك
يوسف
عليه السلام، وهو الذي أوتي علماً وحكمة بنص القرآن أن هذا
العمى
نتيجة لصدمة نفسية، وأنه يمكن أن يشفى بصدمة مضادة، وتقول
الآية
على لسانه
{اذْهَبُوا
بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ
بَصِيرًا
وَأْتُونِي
بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ(93) }
(
يوسف ).
ثم الرمزية التي جاءت في
تفسير يوسف للأحلام الثلاثة.. حلم السجين
الذي
رأى نفسه يعصر خمراً، والآخر الذي رأى انه يحمل طعاماً فوق
رأسه
ويأكل منه الطير.. ثم حلم الملك الشديد الرمزية.. إن كل ذلك يجعل
القرآن
الكريم يتفوق في تفسيراته للنوازع والرغبات والسلوك الإنساني..
تفوقاً
يجل عن المقارنة، ويتنزه عن المنافسة لمجهودات كائناً من
كان
من البشر في هذا
المضمار!!
******************************
أهم
المصادر والمراجع
ـ
الروح لابن قيم الجوزية
ـ
تفسير القرطبي لأبي عبد الله القرطبي
ـ
القرآن نظرة عصرية لعبد المنعم
الجداوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق