وردني خبر وفاة أحد الرجال، فسألت عن مكان العزاء ثم علمت أن
العزاء في بيت طليقته، فاستغربت من الخبر،
وبدأت أسأل عن السبب فعلمت أن لهذا الحدث قصة عجيبة،
وهي أن المتوفى كان زوجا لهذه المطلقة ورزق منها بأربعة أبناء،
إلا أنها ولأسباب خاصة طلبت منه الطلاق فاستجاب لها، ثم قالت
له إن الطلاق ينهي العلاقة الزوجية، ولكن لا ينهي العلاقة الوالدية،
واتفقت معه على ألا يتأثر الأبناء بهذا الطلاق، وتبقى علاقتهما
بالتفاهم والتنسيق مستمرة مع الأبناء،
وظلت توجه أبناءها لزيارة والدهم، والخروج معه والاهتمام به،
فساهمت في تقوية العلاقة معه ومع أهله.
ومع مرور الأيام، أصيب الأب بمرض السرطان، ولم يكن لديه أحد
من أهله يساعده أو يرعاه في مرضه، فاجتمعت طليقته مع أبنائها
وقرروا أن يخصصوا له غرفة ببيت الطليقة، ويقوم الأبناء
على رعايته وخدمته، ووافق الأب على هذا المقترح وازداد مرضه
مع الأيام حتى صار مقعدا لا يتحرك،
وكان أبناؤه الأربعة يتناوبون على خدمته ورعايته، وأمهم تشرف
على علاجه ورعايته من خلال أبنائها لمدة سنتين ونصف السنة،
إلى أن توفاه الله -تعالى- ثم قرر الأبناء أن يكون العزاء ببيت أمهم
وعرضوا هذا المقترح عليها فوافقت على ذلك، وقد توافد الناس
للعزاء في بيت المطلقة، وانتهت القصة.
ربما كثير من القراء يستغرب من تصرف هذه المرأة مع طليقها؛
لأنها على غير ما اعتدنا أن نشاهده في قضايا الطلاق، فأخلاقها راقية
وقد وقفت موقفا بطوليا في هذه الأزمة على الرغم من المعاناة
التي لاقتها من هذا الرجل قبل طلاقها،
إلا أنها أرادت أن تنال الأجر العظيم من الله -تعالى- ولم تنتقم لذاتها،
على خلاف ما نسمع ونرى اليوم في كثير من حالات الطلاق
بانتقام أحد الزوجين من الآخر بالمال أو بالممتلكات أو بالأولاد،
حتى تنتهي الأسرة بالتفكك والدمار بسبب عناد الزوجين أو
انتقام أحدهما من الآخر.
بينما نجد في نموذج القصة التي ذكرناها أن الأم هي التي طلبت
الطلاق والفراق، ومع هذا استطاعت أن تفصل مشاعرها السلبية
تجاه طليقها؛ لكونها زوجة سابقة، ولعبت دور الأم المربية الفاضلة
فتدفع أبناءها لبر والدهم بعيدا عنها، وكذلك توجههم لزيارته أثناء
مرضه والسهر على راحته واحضاره الى بيتها وتخصيصها غرفة
لمرضه ومداواته إلى أن وافاه الأجل،
ثم تقرر أن يكون العزاء في بيتها.
فالخلق الحسن دائما هو سيد الموقف،
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:
( ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق)
و( إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم والقائم)،
فثواب حسن الخلق يكون أكثر لو كان في مكان يتوقع منه سوء
الخلق
مثل الطلاق، إن تصرف المطلقة في هذه القصة فيها الكثير من
القيم والأخلاق منها حسن الوفاء والاحترام وتجاوز سلبيات الماضي،
وتربية الأبناء على بر الوالدين،
فالإنسان يعرف معدنه في الأزمات والمواقف الصعبة،
فالناس وقت الرخاء نرى منهم التجمل وحسن الخلق،
أما وقت الشدة ففيها تنكشف حقيقة الإنسان
ومعدنه إن كان طيبا أو لئيما، وإن كان وفيا أو حاقدا،
وكما قيل (المصائب محك الرجال)،
وهذه المطلقة نجحت في الاختبار الرباني على مستواها الشخصي
وعلى مستوى أبنائها، وربحت الثواب العظيم من رب العالمين.
ليس من الخطأ أن يتخذ كلا الزوجين قرارا بالانفصال، وخاصة لو
بذلا كل محاولات الإصلاح (فالتسريح بالإحسان) مبدأ نؤمن به،
وليس كل زواج ينجح، فهذه قاعدة اجتماعية ولكن الأهم من
الزواج والطلاق هو الأخلاق الراقية التي يتم التعامل بها
سواء في حالة الزواج أو الطلاق، وقد شاهدنا بهذا الزمن مآسي
الطلاق والتسابق على أروقة المحاكم واستخدام سلاح الأبناء
للتهديد والانتقام، وأنا أعرف شخصيا قضية بين زوجين تم طلاقهما
منذ عشر سنوات، وإلى الآن هذه القضايا متداولة بالمحاكم وأغلبها
دعاوى كيدية من الطرفين.
وفي الختام.. نقول عزاء في بيت مطلقة راقية.
د. جاسم المطوع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق