عندما كان الغرب معجباً بالمسلمين
على رغم أن مدة الغزو الصليبي للعالم الإسلامي كانت من مراحل التاريخ
الإسلامي المؤلمة، إلا أن فيها بعض الدروس التي تكشف إشراق حضارة
الإسلام وانبساط أخلاقه السمحة على خريطة العالم في ذلك الوقت، وأن النبل
والمروءة اللذين كان يتصف بهما المسلمون وجدا لهما بعض الأثر وشيئاً
من القَبول لدى بعض كبار النصارى الصليبيين؛ وسبب ذلك أن الأمة
الإسلامية كانت هي المتفوّقة الغالبة في سياقها التاريخي والقيمي والثقافي،
فكان من الطبيعي أن يتأثر بها الصليبيون البدائيون، الذين كانوا يفتحون
أعينهم للمرة الأولى على شيء من ذلك النور المبين.
وبما أننا نتحدث عن تلك الحقبة، فإننا اخترنا كتاباً واحداً يتحدث عنها بدقة،
وهو كتاب رحلة ابن جبير، ونختار من بين ما يستحق
أن يُذكر نموذجين اثنين:
النموذج الأول:
يذكر ابن جبير أنه على وقت الحروب الصليبية كان من أعجب ما يحدث أن
نيران الحرب كانت تستعر بين المسلمين والنصارى، وربّما يلتقي الجمعان،
وتحتدم المواجهة بينهما، في حين أن الأصدقاء من المسلمين والنصارى
يتردد بعضهم على بعض دون أدنى اعتراض أو مضايقة، وكذلك حال جميع
الناس في أعمالهم وتجارتهم وشؤونهم.
ويقول ابن جبير في وصف بعض تلك الأحوال:
(شاهدنا في هذا الوقت، الذي هو شهر جمادى الأولى، من ذلك خروج صلاح
الدين بجميع عسكر المسلمين لمنازلة حصن الكرك، وهو من أعظم حصون
النصارى، وهو المعترض في طريق الحجاز، والمانع لسبيل المسلمين
على البر، بينه وبين القدس مسيرة يوم أو أشفّ قليلا، وهو سرارة أرض
فلسطين، وله نظر عظيم الاتساع متصل العمارة، يُذكر أنه ينتهي إلى
أربعمائة قرية، فنازله هذا السلطان وضيّق عليه وطال حصاره.
واختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بالد الإفرنج غير منقطع.
واختلاف المسلمين من دمشق إلى عكة كذلك. وتُجار النصارى أيضا
لا يُمنع أحد منهم ولا يُعترض. وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها
في بلادهم، وهي من الأمَنة على غاية. وتجّار النصارى أيضاً يؤدون في بلاد
المسلمين على سِلَعهم، والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال.
وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية، والدنيا لمن غلب.
هذه سيرة أهل هذه البلاد في حربهم والفتنة الواقعة بين أمراء المسلمين
وملوكهم كذلك. ولا تُعترض الرعايا ولا التجّار؛ فالأمن لا يفارقهم في جميع
الأحوال سلماً أو حرباً، وشأن هذه البلاد في ذلك أعجب من أن يُستوفى
الحديث عنه، والله يُعلي كلمة الإسلام بمنّه).
النموذج الثاني:
وصل ابن جبير أثناء رحلته البحرية إلى جزيرة صقلية، وذكر قلة المسلمين
فيها، واستيحاشهم منها، بسبب غربتهم وبعدهم بلاد الإسلام، لكنه عندما
يتعرض لذكر الملك غليان يقول عنه ما يأتي:
(وشأن ملكهم هذا عجيب في حسن السيرة واستعمال المسلمين واتخاذ
الفتيان المجابيب، وكلّهم أو أكثرهم كاتمٌ إيمانه، متمسّك بشريعة الإسلام،
وهو كثير الثقة بالمسلمين وساكن إليهم في أحوالهم والمهم من أشغاله،
حتى إن الناظر في مطبخته رجل من المسلمين، وله جملة من العبيد السود
المسلمين، وعليهم قائد منهم. ووزراؤه وحجابه الفتيان، ولهم منهم جملة
كبيرة، هم أهل دولته، والمرتسمون بخاصته، وعليهم يلوح رونق مملكته،
لأنهم متسعون في الملابس الفاخرة والمراكب الفارهة، وما منهم
إلا من له الحاشية والخول والأتباع).
ويضيف:
(وليس في ملوك النصارى أترف في الملك ولا أنعم ولا أرفه منه، وهو
يتشبه في الانغماس في نعيم الملك وترتيب قوانينه ووضع أساليبه وتقسيم
مراتب رجاله وتفخيم أبّهة الملك وإظهار زينته بملوك المسلمين، وملكه
عظيم جداً. وله الأطباء والمنجمون، وهو كثير الاعتناء بهم، شديد الحرص
عليهم، حتى إنه متى ذُكر له أن طبيباً أو منجّماً اجتاز ببلده أمر بإمساكه
وأدرّ له أرزاق معيشته حتى يُسليه عن وطنه، والله يعيذ المسلمين من الفتنة
به بمنّه. وسنّه نحو الثلاثين سنة، كفى الله المسلمين عاديته وبسطته،
ومن عجيب شأنه المتحدَّث به أن يقرأ ويكتب بالعربية، وعلامته على ما
أعلمنا به أحد خدَمته المختصين به: الحمد لله حقّ حمده. وكانت علامة أبيه:
الحمد لله شكراً لأنعمه).
ويقول عنه:
(وأما جواريه وحظاياه في قصره فمسلمات كلّهن، ومن أعجب ما حدثنا به
خديمه المذكور، وهو يحيى بن فتيان الطراز، وهو يطرّز بالذهب في طراز
الملك: أن الإفرنجية من النصرانيات تقع في قصره فتعود مسلمة، تعيدها
الجواري المذكورات مسلمة، وهنّ على تكتّم من ملكهنّ في ذلك كله، ولهن
في فعل الخير أمور عجيبة، وأُعلمنا أنه كان في هذه الجزيرة زلازل مُرجفة
ذُعر لها هذا المشرك. فكان يتطلع في قصره فلا يسمع إلا ذاكراً لله ولرسوله
من نسائه وفتيانه، وربّما لحقتهم دهشة عند رؤيته، فكان يقول لهم: لذكر
كل أحد منكم معبوده ومن يدين به؛ تسكيناً لهم.
وأما فتيانه الذين هم عيون دولته وأهل عمالته في ملكه فهم مسلمون،
ما منهم إلا يصوم الأشهر تطوعاً وأتجّراً، ويتصدق تقرباً إلى الله وتزلّفاً،
ويفتكّ الأسرى ويربّي الأصاغر منهم ويزوّجهم ويحسن إليهم، ويفعل من
الخير ما استطاع. وهذا كله صنع من الله عز وجل لمسلمي هذه الجزيرة
وسرّ من أسرار اعتناء الله عزّ وجلّ بهم).
على رغم أن مدة الغزو الصليبي للعالم الإسلامي كانت من مراحل التاريخ
الإسلامي المؤلمة، إلا أن فيها بعض الدروس التي تكشف إشراق حضارة
الإسلام وانبساط أخلاقه السمحة على خريطة العالم في ذلك الوقت، وأن النبل
والمروءة اللذين كان يتصف بهما المسلمون وجدا لهما بعض الأثر وشيئاً
من القَبول لدى بعض كبار النصارى الصليبيين؛ وسبب ذلك أن الأمة
الإسلامية كانت هي المتفوّقة الغالبة في سياقها التاريخي والقيمي والثقافي،
فكان من الطبيعي أن يتأثر بها الصليبيون البدائيون، الذين كانوا يفتحون
أعينهم للمرة الأولى على شيء من ذلك النور المبين.
وبما أننا نتحدث عن تلك الحقبة، فإننا اخترنا كتاباً واحداً يتحدث عنها بدقة،
وهو كتاب رحلة ابن جبير، ونختار من بين ما يستحق
أن يُذكر نموذجين اثنين:
النموذج الأول:
يذكر ابن جبير أنه على وقت الحروب الصليبية كان من أعجب ما يحدث أن
نيران الحرب كانت تستعر بين المسلمين والنصارى، وربّما يلتقي الجمعان،
وتحتدم المواجهة بينهما، في حين أن الأصدقاء من المسلمين والنصارى
يتردد بعضهم على بعض دون أدنى اعتراض أو مضايقة، وكذلك حال جميع
الناس في أعمالهم وتجارتهم وشؤونهم.
ويقول ابن جبير في وصف بعض تلك الأحوال:
(شاهدنا في هذا الوقت، الذي هو شهر جمادى الأولى، من ذلك خروج صلاح
الدين بجميع عسكر المسلمين لمنازلة حصن الكرك، وهو من أعظم حصون
النصارى، وهو المعترض في طريق الحجاز، والمانع لسبيل المسلمين
على البر، بينه وبين القدس مسيرة يوم أو أشفّ قليلا، وهو سرارة أرض
فلسطين، وله نظر عظيم الاتساع متصل العمارة، يُذكر أنه ينتهي إلى
أربعمائة قرية، فنازله هذا السلطان وضيّق عليه وطال حصاره.
واختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بالد الإفرنج غير منقطع.
واختلاف المسلمين من دمشق إلى عكة كذلك. وتُجار النصارى أيضا
لا يُمنع أحد منهم ولا يُعترض. وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها
في بلادهم، وهي من الأمَنة على غاية. وتجّار النصارى أيضاً يؤدون في بلاد
المسلمين على سِلَعهم، والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال.
وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية، والدنيا لمن غلب.
هذه سيرة أهل هذه البلاد في حربهم والفتنة الواقعة بين أمراء المسلمين
وملوكهم كذلك. ولا تُعترض الرعايا ولا التجّار؛ فالأمن لا يفارقهم في جميع
الأحوال سلماً أو حرباً، وشأن هذه البلاد في ذلك أعجب من أن يُستوفى
الحديث عنه، والله يُعلي كلمة الإسلام بمنّه).
النموذج الثاني:
وصل ابن جبير أثناء رحلته البحرية إلى جزيرة صقلية، وذكر قلة المسلمين
فيها، واستيحاشهم منها، بسبب غربتهم وبعدهم بلاد الإسلام، لكنه عندما
يتعرض لذكر الملك غليان يقول عنه ما يأتي:
(وشأن ملكهم هذا عجيب في حسن السيرة واستعمال المسلمين واتخاذ
الفتيان المجابيب، وكلّهم أو أكثرهم كاتمٌ إيمانه، متمسّك بشريعة الإسلام،
وهو كثير الثقة بالمسلمين وساكن إليهم في أحوالهم والمهم من أشغاله،
حتى إن الناظر في مطبخته رجل من المسلمين، وله جملة من العبيد السود
المسلمين، وعليهم قائد منهم. ووزراؤه وحجابه الفتيان، ولهم منهم جملة
كبيرة، هم أهل دولته، والمرتسمون بخاصته، وعليهم يلوح رونق مملكته،
لأنهم متسعون في الملابس الفاخرة والمراكب الفارهة، وما منهم
إلا من له الحاشية والخول والأتباع).
ويضيف:
(وليس في ملوك النصارى أترف في الملك ولا أنعم ولا أرفه منه، وهو
يتشبه في الانغماس في نعيم الملك وترتيب قوانينه ووضع أساليبه وتقسيم
مراتب رجاله وتفخيم أبّهة الملك وإظهار زينته بملوك المسلمين، وملكه
عظيم جداً. وله الأطباء والمنجمون، وهو كثير الاعتناء بهم، شديد الحرص
عليهم، حتى إنه متى ذُكر له أن طبيباً أو منجّماً اجتاز ببلده أمر بإمساكه
وأدرّ له أرزاق معيشته حتى يُسليه عن وطنه، والله يعيذ المسلمين من الفتنة
به بمنّه. وسنّه نحو الثلاثين سنة، كفى الله المسلمين عاديته وبسطته،
ومن عجيب شأنه المتحدَّث به أن يقرأ ويكتب بالعربية، وعلامته على ما
أعلمنا به أحد خدَمته المختصين به: الحمد لله حقّ حمده. وكانت علامة أبيه:
الحمد لله شكراً لأنعمه).
ويقول عنه:
(وأما جواريه وحظاياه في قصره فمسلمات كلّهن، ومن أعجب ما حدثنا به
خديمه المذكور، وهو يحيى بن فتيان الطراز، وهو يطرّز بالذهب في طراز
الملك: أن الإفرنجية من النصرانيات تقع في قصره فتعود مسلمة، تعيدها
الجواري المذكورات مسلمة، وهنّ على تكتّم من ملكهنّ في ذلك كله، ولهن
في فعل الخير أمور عجيبة، وأُعلمنا أنه كان في هذه الجزيرة زلازل مُرجفة
ذُعر لها هذا المشرك. فكان يتطلع في قصره فلا يسمع إلا ذاكراً لله ولرسوله
من نسائه وفتيانه، وربّما لحقتهم دهشة عند رؤيته، فكان يقول لهم: لذكر
كل أحد منكم معبوده ومن يدين به؛ تسكيناً لهم.
وأما فتيانه الذين هم عيون دولته وأهل عمالته في ملكه فهم مسلمون،
ما منهم إلا يصوم الأشهر تطوعاً وأتجّراً، ويتصدق تقرباً إلى الله وتزلّفاً،
ويفتكّ الأسرى ويربّي الأصاغر منهم ويزوّجهم ويحسن إليهم، ويفعل من
الخير ما استطاع. وهذا كله صنع من الله عز وجل لمسلمي هذه الجزيرة
وسرّ من أسرار اعتناء الله عزّ وجلّ بهم).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق