الكذب
إن الكذب من أقبح الأخلاق وأشنعها، وقد كانت العرب تمقته في جاهليتها،
وجاء الإسلام؛ فأقر ذم الكذب وحذر منه، قال -صلى الله عليه وسلم-:
( إن الكذب ليهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار،
وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً )
(متفق عليه).
وعدَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض خصال المنافق، فذكر منها؛ أنه إذا
حدث كذب كما في الصحيحين،
( ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في نومه -ورؤيا النبيين حق- رجلا
ملقى على قفاه ورجل قائم عليه بكلوب من حديد وإذا هو يأتي أحد شقي
وجهه؛ فيشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه ثم يتحول
إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول فما يفرغ من ذلك
الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان ثم يعود عليه فيفعل مثلما فعل في
المرة الأولى، وحين سأل عنه قيل له هو الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة
تبلغ الآفاق )
(رواه البخاري).
إن الكذب هو الإخبار بخلاف الواقع، وأعظم أنواعه وأشنعها الكذب على الله
-تعالى- والكذب على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى في تحريم
الكذب عليه:
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
[الأنعام: 144]؛
فدلت هذه الآية على أنه لا أحد أظلم ممن كذب على الله ودلت على أن الكذب
على الله يفضي إلى إضلال الناس، وانحرافهم عن الحق، وأن الكاذب على
الله ظالم محرمة عليه الهداية إذا لم يكن له قصد في غير الظلم
والكذب والجور.
والكذب على الله له صورتان:
الأولى: أن تقول قال الله كذا وكذا و الله لم يقله.
الثانية: أن تفسر كلام الله كذباً وافتراءً دون علم ولا بصيرة وإنما تفسره
اتباعاً للهوى؛ بخلاف من اجتهد وهو من أهل الاجتهاد فأخطأ؛ فالكذب على
الله بتحليل ما حرم أو تحريم ما أحل هو من أعظم الآثام وأقبحها، قال تعالى:
{ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ
لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ }
[النحل: 116]،
ذكر الله المحرمات وختمها بأشدها فقال:
{ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }
[البقرة: 169].
والكذب على الرسول -صلى الله عليه وسلم- كبيرة
لقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتواتر:
( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )
لأن الكذب على الرسول -صلى الله عليه وسلم- كذب على الله، ولأنه يفضي
إلى إفساد الدين وتبديل معالمه بالزيادة أو النقص؛ فعلى المسلم أن يحذر
من رواية الحديث إلا ما علم ثبوته، وليحذر من تفسير حديث رسول الله –
صلى الله عليه وسلم- إلا بما فسره به أهل العلم من الأئمة المعتبرين.
ويلي الكذب على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الخطورة الكذب على
ورثته من العلماء الربانيين؛ بأن ينسب إليهم من الأقوال والفتاوى ما لم
يقولون به؛ إما بسبب ضعف الفهم، وإما بسبب الهوى والرغبة في نشر
المقالات الباطلة والمذاهب المنحرفة، وأكثر من يقع في هذا أهل البدع
والحزبيات؛ فإن كثيراً من رؤسائهم لا يتحاشون من الكذب
في هذا الباب فضلاً عمن دونهم.
ثم يلي هذا الكذب على الناس في الأحاديث والأخبار التي لا تعلق لها بالدين
وهو على مراتب؛ فمن أشده الكذب الذي يترتب عليه أخذ حقوق الناس
وأموالهم، أو يترتب عليه ظلمهم في أعراضهم.
ومنه الكذب في البيوع والمعاملات؛ فمن الباعة من يصف السلعة بأكثر
من صفتها ليرغب فيها المشتري، أو يكذب في إخباره برأس مالها الذي
اشتراها به؛ ليبين أن ربحه فيها قليل، أو غير ذلك من صور الكذب، وكل ما
كسب من المال بالكذب والتدليس؛ فهو مكسب حرام،
قال -صلى الله عليه وسلم-:
( إن التجار هم الفجار قيل يا رسول الله أليس قد أحل الله البيع ؟
قال “بلى. ولكنهم يحلفون فيأثمون، ويحدثون فيكذبون )
(رواه أحمد بإسناد جيد)،
وأكثر الدعايات التجارية اليوم قائمة على الكذب لأنها تصور السلع
وجودتها وفائدتها بأكثر مما هو في الواقع بكثير.
ومن الكذب المحرم إخلاف المواعيد لغير ضرورة؛ كأن تعد فلاناً بأنك ستأتيه
في الوقت الفلاني ثم لا تأتيه لغير عذر، والقول بالتحريم هو اختيار شيخ
الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وهو الموافق لعموم الأحاديث.
ومن الكذب المحرم الكذب لأجل إضحاك الناس وغالب ما يسمى اليوم بالنكات
هو من هذا القبيل يقول -صلى الله عليه وسلم-
( ويل للذي يحدث؛ فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له )
(رواه أحمد وغيره بإسناد جيد).
ومن الكذب المحرم التمثيل؛ فإنه يقوم على الكذب وغالباً ما يشتمل على
محاذير أخرى إلى الكذب، كالتشبه بأهل الكتاب والمشركين، وتشبه الرجل
بالمرأة والمرأة بالرجل، وكثيراً ما تصحبه الموسيقى والأغاني أو الأناشيد
المحدثة، والتمثيل منكر انتشر في المدارس والمراكز الصيفية وأنشطة كثير
من الحلقات مع أن هذه الصروح كان ينبغي أن تكون أبعد شيء عن الكذب
بجميع صوره.
إن الكذب منشأ لكثير من الأخلاق السيئة، كالخيانة والغدر والفجور والجبن
والبخل، والكاذب لا يوثق بوعده إذا وعد، ولا يصدق في خبر إذا أخبر؛
فالكذب ذلة في الدنيا ومهانة، وإثم وعذاب يوم القيامة؛ فاحترسوا من الكذب
وعليكم بالصدق،
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ }
[التوبة 119)
والله اعلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق