جرأة أطفال
الجزء الأول
اعتادت "أم هـ" أن تصطحب ابنتها معها في بعض الزيارات العائلية،
إلاّ أن "يدها على قلبها"؛ خوفاً من جرأتها أمام النساء،
وتحديداً حين تحمل ردة فعلها عبارات قاسية "وش دخلك"،
أو جارحة في حق الآخرين "من زينك"، أو سلوكاً عنيفاً ومسيئاً
في حق من احتك بها، وهو ما سبب إحراجاً شديداً لوالدتها؛
لدرجة أنّ البعض أصبح يتذمر من وجودها في أي مكان.
وعلى الرغم من أن هناك فارقا كبيرا بين "الجرأة" و"قلّة الأدب"،
فهو ليس خيطاً يُخشى أن يقطع، أو حصناً لا يقهر،
وإنما هو فارق يعكس تربية الوالدين أمام القريبين والمجتمع،
بل أكثر من ذلك مؤشر على انعكاس تلك التربية على سلوكيات
وأخلاق الطفل مستقبلاً.
ويتسم التعامل مع الأطفال الجريئين بالسلبية، حيث تحضر القسوة، والزجر،
والتوبيخ؛ مما قد يؤدي إلى تحطيم شخصية الطفل،
وجعله شخصية سلبية إنسحابيه أو عدوانية،
فيكون غير قادر على الدفاع عن حقوقه، ولا يستطيع التعبير عن مشاعره
الحقيقية، كما يشعر بالعجز والضعف، ولا يمكنه رفض طلبات الآخرين
ولا حتى معارضتهم، ويسعى إلى إرضائهم على حساب نفسه!.
جرأة سوية
وأوضح "د.حسين عبدالفتاح الغامدي" -عضو قسم علم النفس
في جامعة أم القرى- أنّ الجرأة في صورتها السوية هي سمة نفسية
وسلوكية تختفي معها مشاعر الخوف،
وتمكّن الفرد من مواجهة المواقف المادية والاجتماعية الصعبة،
وعادةً ما ينظر إليها كسمة إيجابية، دون التفكير في درجتها أو اتساقها
مع المعايير الاجتماعية، وهذا ما يعتمده علماء النفس عند قياسها
أو الحكم عليها، فهي ذات قطبين،
حيث تتدرج من جرأة تامة إلى جُبن مطلق،
وهو مالا يتحقق في الغالب، حيث انّ الجرأة التامة سلوك غير مقبول،
ذلك لأنّ السلوك السوي يعبّر عن توازن منطقي يتجه نحو الإيجابية
بين السمة ونقيضها، فالإنسان في حاجة لدرجة من الخوف والخجل
لضبط تطرف الجرأة وعدم تحولها إلى تهور واندفاعية في المواقف
الخطرة، أو "وقاحة" عند التعامل مع الآخرين.
اندفاعية وتهور
وقال انّه يختلف تقدير الجرأة غير السوية، أو الاندفاعية، والتهور،
وعدم احترام الآخرين، وذلك باختلاف مجموعة من العوامل أهمها
السن ، فما هو مقبول من طفلٍ صغيرٍ قد لا يكون مقبولاً من طفلٍ
في المدرسة الابتدائية أو من مراهقٍ، وما هو مقبول من الذكور
قد لا يكون مقبولاً من الإناث، وهذا يظهر بوضوح في مجتمعنا،
إلاّ أنّ التوقعات والأدوار المتوقعة من الجنسين مختلفة في غالبية
المجتمعات، معتيراً أنّ كل أنماط الجرأة المتهورة غير محمودة،
ويمكن أن تظهر في صورٍ متعددة بعضها يرجع على الفرد بالضرر،
في حين يرجع أثر بعضها على الآخرين بدرجة أكبر.
تدليل مفرط
وأضاف أنّ هناك احتمالا في اختلاف نشاط الدماغ لدى المتهورين؛
مما يجعلهم أكثر جرأة، كما أنّ بعض الاضطرابات الأخرى
ومنها ملازمة فرط الحركة وتشتت الانتباه يمكن أن تؤدي بالأطفال
إلى سلوكيات من هذا النوع، ومع ذلك يُرجع علماء النفس والتربية أسباب
الاندفاعية والتهور والجرأة الفجة إلى أساليب التربية،
خاصةً في بدايات الحياة، وأيضاً إلى الدعم المعزّز لهذا السلوك في الثقافة،
وعجز الأسرة والمؤسسات التربوية على غرس منظومة سلوكية
واجتماعية تعمل على ضبط السلوك، وتحديداً عند التعامل مع الآخرين،
مبيّناً أنّ القسوة المفرطة أو التدليل المفرط يمكن أن تقود إلى الجرأة،
إذ يمكن للقسوة أن تقود إلى العديد من الاضطرابات النفسية تترجم في صور
مختلفة من الأفعال العدوانية والمندفعة والمؤذية للآخرين،
كما يؤدي التدليل المفرط إلى الاندفاعية والجرأة المؤذية،
خاصةً في التفاعل الاجتماعي، وذلك نتيجة لضعف اكتساب الطفل المدلل
للقيم السلوكية المنظمة لتفاعله مع الآخرين،
ولافتقاده القدرة على التحكم في نزعاته أو تأجيل الإشباع لتعّوده
على الحصول المباشر على ما يرغب، أو لضعف الحزم في التعامل
معه لضبط نزعاته وغرائزه وتنظيمها بما ينسجم والمعايير الاجتماعية.
دور الأسرة !
وأشار إلى أنّ ارتفاع هذا السلوك من قبل الاطفال بسبب ضعف الحزم
في فرض القواعد، إضافةً إلى انشغال الآباء والأمهات
لافتاً إلى أنّ إهمال المدارس للجانب القيمي والتركيز على الجانب المعرفي
يزيد من حدة الظاهرة أو يبقيها على حالها،
كما قد تسهم الثقافة الاجتماعية السائدة والتغير الاجتماعي العام الذي
أدى إلى اختلاف ممارسات أطفالنا عن ما كنا نفعل، وتفكك المجتمع،
وضعف المنظومة القيمية غير الرسمية،
مبيّناً أنّ أثر الجرأة يرتبط بالأسرة تبعاً لسواء أو شذوذ الجرأة نفسها،
حيث ترتبط الجرأة السوية بالسواء النفسي، وهذا أمل ومصدر سعادة الآباء
والأمهات، بل وعامل من عوامل الاستقرار الأسري،
على العكس من ذلك تمثّل الجرأة المرضية المعبرة عن سوء التكيف مصدراً
لقلق الوالدين وإحباطهما، وربما مصدراً للتعاسة الأسرية
التي يمكن أن تقود للصراع والتفكك الأسري أحياناً،
حيث تمثّل مشكلات الأبناء كما تشير الدراسات العلمية أحد عوامل الرضا
الأسري والزواجي أو مهدداً ضمن مجموعة من المهددات.
تمثيل المستقبل
وأضاف أنّ الشريحة الكبيرة من الأطفال والمراهقين هم من سيمثلون
المجتمع في المستقبل، ولذا يمثل اكتسابهم للجرأة السوية والاستقلالية
والمبادرة مؤشرا على فاعلية وقوة المجتمع، فالمجتمعات الفاعلة تستند
على أشخاص فاعلين أقوياء يتمتعون بالجرأة والمبادرة لإنجاز أهدافهم
دون وجل، مبيّناً أنّ الجرأة السوية المستندة على مبدأ المحافظة على سلامة
الذات والآخر تعدّ مؤشراً للنمو السوي ونضج الأنا والتوافق الاجتماعي،
وهي دافع لمزيدٍ من التكيف الاجتماعي،
وتفضي بطبيعة الحال إلى تقبل من الآخرين للطفل أو المراهقة ومبادلته
التقدير، وعلى العكس من ذلك تمثل الجرأة المرضيّة المعبر عنها بالأفعال
المتهورة أو الخطرة مؤشراً على الاضطراب النفسي،
حيث تمثل عرضاً تعويضياً لا شعوريا للتخلص من القلق ومشاعر النقص
المرتبطة بهذه الاضطرابات، وتقود بدورها إلى الكثير من المشكلات أدناها
سوء العلاقة والتوافق الاجتماعي والرفض من الآخرين والخلاف
معهم كنتيجة لتعامله الفج معهم، وقد ترتبط بالجنح وارتكاب الجرائم،
بل والموت كما يحدث في حوادث السيارات.
نصائح للتغيير
وأشار إلى أنّ الجرأة السوية تتمثّل في القدرة على التعبير عن الذات
دون إيذاء للآخرين، فإذا تسببت في إيذاء لهم أو كانت منافية للذوق العام
والقيم المقبولة أصبحت مؤشراً على الاضطراب المترجم في اندفاع
وتهور وعدائية، ناصحاً الآباء إلى اتباع السبل السوية في تربيتهم لأبنائهم
لتوفير النمو السوي منها تكون علاقة أسرية سوية،
فالصراعات الأسرية تؤدي إلى اضطراب الأبناء، حيث يمثّل الآباء نماذج حيّة
لأبنائهم، إلى جانب توفير البيئة السوية الموفرة للحب والحميمية
من غير تدليل، مع الإبقاء على الحزم للمحافظة على احترام القيم والقواعد،
إضافةً إلى البعد عن العدوان والقسوة،
وتشجيع الاستقلالية والمبادرة مع بدايات الطفولة دون إفراط أو تفريط،
حيث تمثّل حاجة أساسية؛ فإحباطها من خلال الحماية المبالغ فيها
أو القسوة أو الإهمال يمكن أن يقود إما إلى الخجل ومشاعر الذنب
أو الاندفاعية والتهور، كذلك ضرورة تعويد الطفل على التخطيط والتفكير
في عواقب الأمور واحتساب النتائج، والحرص على زرع قيم الحياة
الاجتماعية والأخلاقية في وقت مبكر، من خلال الحوار ثم الحزم
في فرضها كواجبات.
« اللغز » في السنوات الأولى من عمر الطفل!
منح الطفل الاستقلالية يعزز من جرأته الإيجابية
لفتت "سلوى عبدالمحسن المجنوني" -أستاذ مساعد في الإرشاد النفسي
بجامعة أم القرى- إلى أنّ علماء التحليل النفسي يرون أنّ الخبرات
التي يمر بها الطفل في الخمس السنوات الأولى من عمره لها أهمية
كبيرة في تشكيل شخصيته، فمن خلالها يمكن إرساء دعائم الشخصية
وتشكيل سماتها؛ وبناءً على ذلك يمكن تربية الطفل على الجرأة
في هذه الفترة، ولكن يجب أن تكون بشكل معتدل وبدون مبالغة
حتى لا تتجاوز الحد المطلوب وتتحول إلى "وقاحة".
وقالت انه يمكن تنمية هذه السمة من خلال ثلاثة مفاهيم أساسية هي الثقة،
والاستقلالية، والمبادرة، والتي يعتمد اكتساب الطفل للثقة على نوعية
علاقته بأمه وكيفية رعايتها له، وليس على كمية الطعام الذي تقدمه،
وبالتالي العلاقة الجيدة مع الأم تؤدي إلى الإحساس بالثقة فيها،
ومن ثم الثقة بالعالم من حوله، وينعكس ذلك على ثقته بنفسه
وعلاقاته مع الآخرين في المستقبل، إلى جانب أنّ عدم تحقيق الطفل
للاستقلالية يؤدي إلى شعوره بالخجل،
كما أنّ الطفل يتمتع بالحيوية والنشاط ويواجه أزمة المبادرة،
فالنقطة الحاسمة التي يسعى الطفل لتحقيقها هي الإحساس بالمبادرة.
وأشارت إلى أنّ الوالدين والراشدين في الأسرة يساعدون الطفل
على تحقيق ذلك عندما يتفهم الجميع طبيعته الجسمية والنفسية في هذا
السن، حيث يستطيعون دعم خياله وفضوله،
ويشجعونه على اقتحام عالم الكبار والاندفاع نحوهم بدون الشعور
بالحذر والخوف، فيعمل الطفل بإرادته دون الإحساس بالإثم،
ويصبح شخصاً جريئاً مبادراً لا يخشى ما يقوله، فيدفعه هذا الشعور
لأن يكون فعالاً في كلامه ومناقشاته وتساؤلاته مع الكبار،
ويدعم هذا الشعور حل الأزمات في المراحل السابقة بشكل إيجابي
"تحقيق الثقة" و"الاستقلالية"، ونتيجة للحل الإيجابي لأزمة
هذه المرحلة يحقق الطفل الشعور بالمبادرة فتكتسب ال"أنا" قوة إضافية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق