الخميس، 14 سبتمبر 2023

العدل الجائر

العدل الجائر!


من أنا بالنسبة لك!؟

هكذا بدأتْ رسالتَها لي يومًا وفاءُ ابنة السبعةَ عشرَ ربيعًا، فتاة شامية سبقت أترابها بالجمال والعقل والوفاء!

ترتدي الثوب المدرسي والحجاب الأبيض وتتدلى خصلة شقراءٌ على خدِّها الأيمن تحاول حبسها تحت الحجاب كلما همت بحديث،

ولكن سرعان ما تأبى الخصلة الطاعة فتعود وتنسدل؛ لتلامس ذلك الخد الأسيل المتقد بحمرة الحياء والذكاء...

بعدما خبرت نفوس الطلاب، فهمتُ أنَّها تتعمد الإطالة في المناقشة والتوسع في الفهم،

لم أستغرب ذلك عليها فهي من الذكاء والفطنة بما يجعل هذه ظاهرةً طبيعية مقبولة منها..

وفي الحقيقية بدأت أجعل لوفاء وقتًا من خطةِ إعدادي لوقت الدرس، أتجاوز الحشو لنوفِّر وقتًا للوفاء!

توطدت العلاقة بيننا، لم تعد قاعة الدرس تأتي بالمطلوب، فكانت رفيقتي في كل وقتٍ يسمحُ لنا بذلك بدءًا من فرصة الطعام،

ثم أوقات الإشراف الخاصة بي، ثم أوقات الأنشطة الخاصة بها.. فصارت ابنتي قبل أن أحتضنَ عبدالله بين يديَّ!

مرّ عام ثم أتي الآخر، تعودُ من بلدها وأعود من بلدي ليجد كلٌّ منا في الآخر وطنه الذي فارقه!

لم أكن أبخل عليها بحبٍ أو رعاية واهتمام، ولكن بالنهاية أنا معلمة

لابد أن أُظهر أنني على نفس المسافة من الجميع غير أن للقلوب مقاييسها!

بدأت المنافسة بين المراهقات على حبِّ المعلمة صدقًا أو كيدًا لوفاء – الله أعلم –

وبدأتُ أتظاهر بالعدل غير أن القلب لها يميل.. لم يكن يعجبها ذلك لكنها لم تجد بُدًّا من مسايرة الواقع.

لم يكن في ذاك الزمان وسائل تواصل غير عبارات الثناء والتشجيع الخاصة والصادقة على كتاب أو دفتر..

فكنت أجد دفترها من الروعة والجمال كما لو أنها أفرغت فيه حبَّها لي!

أعترفُ أنني أحببتها والدليل أن هذا المقال أكتبه بعد أكثر من خمسةٍ وعشرين عامًا على هذه الأحداث!

ولكن قوة حبي لم تكن لتواكب جذوة حبها، وهذا طبيعي؛ فكنت على عتبات الأمومة الأولى وكانت هي على عتبات المراهقة!

انقطع الطلابُ عن المدرسة للاستعداد للامتحانات، وجاء اليومُ الأول للاختبار،

فاخترت الإشراف على البوابة التي تدخل منها وفاء لأكون أول من ترى من المعلمات فينعكس ذلك إيجابًا على أدائها،

انتظرتُ طويلًا فلم تأتِ، ففضّلت أن أبقى لاستقبال المتأخرات على أن أصعد للمراقبة رغم سوء الجو لدرجةٍ لا تطاق... ولكن لم تأت وفاء!

صعدت للمراقبة لأكثر من ساعتين وأنا بخاطر كدِر، ولا يسيطر على وجداني إلا القلق على وفاء؛ فهي من الفائقات وكيف تغيب عن اختبار نهائي؟!

سألت صديقاتها لعلي أجد ما يشفي غلتي فلا سقيا!

واليوم الثاني.. والثالث أسجل لها استمارة الغياب بيدي!

وفي آخر يوم في الاختبار وجدتُ رسالة من وفاء أتتني مع إحدى زميلاتها تحمل عنوان:

من أكون بالنسبة لك؟ مجرد طالبة؟!

ياألله، ما هذا، والله لم أستطع أن أكمل قراءة الرسالة وبقيتُ أبكي وأردد: لا يا وفاء، والله إني أحبك كما لم أحبَّ غيرك، لستِ كغيرك...

أكملت الرسالة وكانت كلها حب وعتاب، ولا زلت أحتفظ بها حتى هذه اللحظة..

قرأتها وأنا أردد: العدل في الحب جريمة والتظاهر به حيفٌ... وحدك يا وفاء أحبُّك ولكن بالله عليك عودي...

حاولت معرفة سبب غيابها عن الامتحان فلم أفلح، وكان هناك تكتم من أهلها شديد؛ فهم مازالوا من مجتمع قبليّ

لا يذيع كل شيءٍ لكل أحد بسهولة!

كتبتُ لها رسالة ترضي خاطرها، جعلت كلَّ حرف فيها يشع حبًّا عن صدق لا ادعاء،

عاهدتها على هدم جدار المظاهر في العام القادم والثبات على ما يحويه القلب من شعور

ولتحترق اللوائح ومن سنها، ولتأكل الغيرة قلوب أصحابها..

نقلت لي صديقتُها أن رسالتي كان لها أثر عظيم في نفسِها، وأنها ستعود للدراسة العام القادم

وتؤكد أنها تحب المدرسة لأجلي وسوف تعود لا محالة!

مرت العطلة وحان موعد اليوم الأول لعودة الطالبات، فتركت زميلاتي وذهبت لاستقبال وفاء، وما من وفاء،

مرّ اليوم الأول والأسبوع الأول ثم لم أطق انتظارًا، ذهبت للأخصائية لآخذ هاتف بيتهم الجديد ولم يكن ظهر النقال!

كلمتُ أختَها فقالت: ( أأعزيك أم أعزي نفسي، وفاء توفيت فجأة بسرطان ملأ أحشاءَها، سافرتْ فرنسا ثم عادت لمكة،

اعتمرت ثم توفيت.. رفضت أدويةَ الكيماوي، وقالت: أحبُّ شعري فقد كانت أبلتي تدخله لي تحت الحجاب بيدها كلما رأتني!

لم نخبر أحدًا أملًا في شفائها، وحتى لا يكون المرض عقبةً في طريق زواجها لاحقًا..

وفاء والله حاضرةٌ معي في سجودِي كلَّما دعوت لأمواتي وأذكرها باسمها...



قد تسألني لماذا تكتبين ذلك الآن رغم السنين؟

أقول لك: ليطول ذكرها، ولأنَّ الحبَّ والصلة في زمننا صارا عبئًا، نتلهَّف عليهم، ويروننا مجرد رتوش ضرورية

لاكتمال لوحة الحياة! وهم ملء القلب والعين لو يعلمون!

حاولتُ تحقيق العدل الجائر مع وفاء فردَّه الزمن إلي!

وجِدتُ عليهم لطول بعدهم.. وما أن هدأ قلبي وتعقلت عيني إلا ووجدت ذاكرتي تواسيني بعبارة وفاء: (من أنتِ بالنسبة لهم؟).

رحم الله وفاء، ورحم قلوب المحبين.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق