موسوعة المؤرخين (08)
فؤاد سزكين (الجزء الثاني)
رؤية فؤاد سزكين وإسهاماته العلمية
دافع سزكين بشدَّة عن مبدأ "وحدة العلوم"، واعتبرها تراث البشريَّة العلمي
الذي ينمو على دفعات متواصلة، وهو رأى أن مهمَّته في أن يُبيِّن
إسهامات العرب في تاريخ العلوم العام.
يُبيِّن ذلك للمسلمين أنفسهم فيُعطي المسلمين بذلك ثقةً بالنفس، ويُبيِّنه كذلك
للغربيِّين فيُدركون أنَّ ازدهار العالم الحديث يرجع الفضل فيه -إلى حدٍّ كبير-
للإنجازات العلميَّة للبيئة الثقافيَّة العربيَّة الإسلاميَّة.
يبحث سزكين في تاريخ العلوم العربيَّة والإسلاميَّة منذ نصف قرنٍ
من الزمان، يُريد بها إيقاظ المسلمين من سباتهم بوصف الدواء الناجع لهم
ولمجتمعاتهم الذي يُسمِّيه "ترياق الحياة"، وهو معرفة إسهام العلوم
العربيَّة والإسلاميَّة في تاريخ العلوم العالمي.
ذلك في رأيه أهم ما يُمكن أن يُعطى لهم لتحريرهم من عقدة النقص،
وإعطائهم دفعةً تُحرِّكهم لتقليص الفجوة بينهم وبين الغرب.
يقول سزكين: "إنَّ الجيل الذي أنتمي إليه نشأ في زمنٍ ترسَّخَ فيه التصوُّرُ
المدرسي المـُجحف لدور العرب والمسلمين في التراكم العلمي العالمي،
ولا يُؤمَل تصحيح ذلك إلَّا من خلال أبحاثٍ جادَّة، وتُتاح نتائجها لدائرةٍ واسعة
من المهتمَّين. ومن طُرُق التعريف الناجعة إعادة صُنعِ الآلات والأجهزة التي
استُعمِلت، واختُرِعت في إطار العلوم الطبيعيَّة والتقنيَّة العربيَّة الإسلامية".
وكان سزكين أكثر حياديَّة، وموضوعيَّة، وإنصافًا، وجدِّيَّة من كثيرٍ
من المستشرقين المتحيِّزين؛ فردَّ عليهم بصبرٍ وأناة. ومن ذلك استفاضته
في المجلَّد الرابع (الكيمياء) من كتابه "تاريخ التراث العربي" في دحض
الافتراءات الملصقة بالكيميائي "جابر بن حيان"، التي تهدف إلى الطَّعْن
في منزلة الكيمياء في حضارتنا، مع إنكار صحَّة نسب عددٍ ضخمٍ من الكتب
الكيميائيَّة إليه، فهو في رأي المـُنكرِين له "شخصيَّة وهميَّة"، لا وجود لها.
وعلى سبيل المثال أثبت "سزكين" أنَّ خرائط العالم، والخرائط الجزئيَّة
الأوروبِّيَّة حتى بداية القرن الثامن عشر الميلادي ترجع إلى أصول عربيَّة؛
ففي عهد الخليفة "المأمون" في بداية القرن التاسع الميلادي قام نحو 70
جغرافيًّا برحلةٍ استغرقت عدَّة سنوات جالوا خلالها في مختلف أرجاء إفريقيا
وأوروبَّا وآسيا، وأسفرت هذه الرحلة العلميَّة عن وضع خريطة للعالم تُعتبر
بالنسبة إلى ذاك الزمان- ذات دقَّةٍ عاليةٍ تُثير الدهشة، يعرضها معهد
فرانكفورت بعد أن حوَّلها بطريقةٍ فنِّيَّةٍ بارعةٍ إلى مجسَّمٍ على شكل
كرةٍ أرضيَّة.
ويُشير سزكين إلى أنَّ: "غربيًّا واجه أخذُ العلوم العربيَّة الإسلاميَّة -مُنذ
النصف الثاني للقرن الثالث عشر- رفضًا شديدًا، ودفع هذا التيَّار العدائي
بحافزٍ أيديولوجي؛ واندفع مؤرِّخو العلوم إلى تصوُّر تاريخ العالم كأنَّه تعبيرٌ
عن النهضة الأوروبِّيَّة، وإنكار أيِّ مكانةٍ إبداعيَّةٍ للعلوم العربيَّة الإسلاميَّة.
واعتبار "النهضة" مواصلةً مباشرةً للعهد الإغريقي، لذا لا يتبقَّى للثقافة
العربيَّة الإسلاميَّة إلَّا دور الوسيط الذي حفظ كُتبٍ إغريقيَّة معيَّنة، وترجمتها،
لذا استباح علمائهم الإنجازات التي حقَّقتها الحضارة العربيَّة والإسلاميَّة،
ونسبوها -غالبًا- إلى أنفسهم".
لم يكن الدكتور سزكين حالمـًا يزعم أنَّه قادرٌ على تحقيق مشروعه العلمي
الكبير حول إحياء التراث العربي بمفرده؛ فقد لقيت مساعيه الحثيثة تجاوبًا
من بعض الحكومات العربيَّة، واستطاع أن يُنجز أعماله بصرامته وهمَّته
وجديَّته المعهودة، وينظر بتفاؤل إلى مستقبل المسلمين شريطة أن يرتقوا
إلى مستوى التحدِّيَّات الراهنة مستلهمين من تراثهم الحضاري ومستفيدين
من التطوُّر الحضاري القائم ومشاركين فيه بفعاليَّة، فبذلك يسيرون حقًّا على
خطى أجدادهم الذين تقدَّموا بفضل التزامهم بالدين وتمسُّكهم بالعلم.
وقد ردَّد الدكتور فؤاد سزكين بعاطفة صادقة وعقل متدبر ما يلخص رؤيته:
"إنَّه لا يسرني بأن تكون الأعمال الخطرة للعلماء المسلمين والعرب في
تاريخ العلوم واسطة لمجرَّد الفخر عند أحفادهم اليوم، ولكنَّني أتمنَّى أن يفهم
الأحفاد هذه الظاهرة في تاريخ العلوم حقَّ فهمها وأن يستدبروا كيف
استطاعت هذه الأمَّة أن تبدأ من وسط يحسب فيه بالحساب الأصبعي ثم أخذت
كل العناصر الإيجابيَّة عند الأمم الأخرى بكلِّ استعدادٍ للأخذ دون أيِّ خوفٍ
أو تردُّدٍ ودون أيِّ عقدةٍ نفسيَّة.. بل بالثقة بالنفس والاعتماد على القدرة
الإنجازيَّة للفرد ليستطيع أن يصل إلى نتائج هامَّة في حياته ويتغلَّب على
مشاكل كبيرة... وأهمُّ من هذا أن يجد عبرة وموعظة في زهد هؤلاء العلماء
الذين كانوا يقرءون ويكتبون أكثر منَّا في ظروفٍ شاقَّةٍ، وكانوا سعداء
حقيقيِّين ومؤمنين بالله وبالعلم".
فؤاد سزكين (الجزء الثاني)
رؤية فؤاد سزكين وإسهاماته العلمية
دافع سزكين بشدَّة عن مبدأ "وحدة العلوم"، واعتبرها تراث البشريَّة العلمي
الذي ينمو على دفعات متواصلة، وهو رأى أن مهمَّته في أن يُبيِّن
إسهامات العرب في تاريخ العلوم العام.
يُبيِّن ذلك للمسلمين أنفسهم فيُعطي المسلمين بذلك ثقةً بالنفس، ويُبيِّنه كذلك
للغربيِّين فيُدركون أنَّ ازدهار العالم الحديث يرجع الفضل فيه -إلى حدٍّ كبير-
للإنجازات العلميَّة للبيئة الثقافيَّة العربيَّة الإسلاميَّة.
يبحث سزكين في تاريخ العلوم العربيَّة والإسلاميَّة منذ نصف قرنٍ
من الزمان، يُريد بها إيقاظ المسلمين من سباتهم بوصف الدواء الناجع لهم
ولمجتمعاتهم الذي يُسمِّيه "ترياق الحياة"، وهو معرفة إسهام العلوم
العربيَّة والإسلاميَّة في تاريخ العلوم العالمي.
ذلك في رأيه أهم ما يُمكن أن يُعطى لهم لتحريرهم من عقدة النقص،
وإعطائهم دفعةً تُحرِّكهم لتقليص الفجوة بينهم وبين الغرب.
يقول سزكين: "إنَّ الجيل الذي أنتمي إليه نشأ في زمنٍ ترسَّخَ فيه التصوُّرُ
المدرسي المـُجحف لدور العرب والمسلمين في التراكم العلمي العالمي،
ولا يُؤمَل تصحيح ذلك إلَّا من خلال أبحاثٍ جادَّة، وتُتاح نتائجها لدائرةٍ واسعة
من المهتمَّين. ومن طُرُق التعريف الناجعة إعادة صُنعِ الآلات والأجهزة التي
استُعمِلت، واختُرِعت في إطار العلوم الطبيعيَّة والتقنيَّة العربيَّة الإسلامية".
وكان سزكين أكثر حياديَّة، وموضوعيَّة، وإنصافًا، وجدِّيَّة من كثيرٍ
من المستشرقين المتحيِّزين؛ فردَّ عليهم بصبرٍ وأناة. ومن ذلك استفاضته
في المجلَّد الرابع (الكيمياء) من كتابه "تاريخ التراث العربي" في دحض
الافتراءات الملصقة بالكيميائي "جابر بن حيان"، التي تهدف إلى الطَّعْن
في منزلة الكيمياء في حضارتنا، مع إنكار صحَّة نسب عددٍ ضخمٍ من الكتب
الكيميائيَّة إليه، فهو في رأي المـُنكرِين له "شخصيَّة وهميَّة"، لا وجود لها.
وعلى سبيل المثال أثبت "سزكين" أنَّ خرائط العالم، والخرائط الجزئيَّة
الأوروبِّيَّة حتى بداية القرن الثامن عشر الميلادي ترجع إلى أصول عربيَّة؛
ففي عهد الخليفة "المأمون" في بداية القرن التاسع الميلادي قام نحو 70
جغرافيًّا برحلةٍ استغرقت عدَّة سنوات جالوا خلالها في مختلف أرجاء إفريقيا
وأوروبَّا وآسيا، وأسفرت هذه الرحلة العلميَّة عن وضع خريطة للعالم تُعتبر
بالنسبة إلى ذاك الزمان- ذات دقَّةٍ عاليةٍ تُثير الدهشة، يعرضها معهد
فرانكفورت بعد أن حوَّلها بطريقةٍ فنِّيَّةٍ بارعةٍ إلى مجسَّمٍ على شكل
كرةٍ أرضيَّة.
ويُشير سزكين إلى أنَّ: "غربيًّا واجه أخذُ العلوم العربيَّة الإسلاميَّة -مُنذ
النصف الثاني للقرن الثالث عشر- رفضًا شديدًا، ودفع هذا التيَّار العدائي
بحافزٍ أيديولوجي؛ واندفع مؤرِّخو العلوم إلى تصوُّر تاريخ العالم كأنَّه تعبيرٌ
عن النهضة الأوروبِّيَّة، وإنكار أيِّ مكانةٍ إبداعيَّةٍ للعلوم العربيَّة الإسلاميَّة.
واعتبار "النهضة" مواصلةً مباشرةً للعهد الإغريقي، لذا لا يتبقَّى للثقافة
العربيَّة الإسلاميَّة إلَّا دور الوسيط الذي حفظ كُتبٍ إغريقيَّة معيَّنة، وترجمتها،
لذا استباح علمائهم الإنجازات التي حقَّقتها الحضارة العربيَّة والإسلاميَّة،
ونسبوها -غالبًا- إلى أنفسهم".
لم يكن الدكتور سزكين حالمـًا يزعم أنَّه قادرٌ على تحقيق مشروعه العلمي
الكبير حول إحياء التراث العربي بمفرده؛ فقد لقيت مساعيه الحثيثة تجاوبًا
من بعض الحكومات العربيَّة، واستطاع أن يُنجز أعماله بصرامته وهمَّته
وجديَّته المعهودة، وينظر بتفاؤل إلى مستقبل المسلمين شريطة أن يرتقوا
إلى مستوى التحدِّيَّات الراهنة مستلهمين من تراثهم الحضاري ومستفيدين
من التطوُّر الحضاري القائم ومشاركين فيه بفعاليَّة، فبذلك يسيرون حقًّا على
خطى أجدادهم الذين تقدَّموا بفضل التزامهم بالدين وتمسُّكهم بالعلم.
وقد ردَّد الدكتور فؤاد سزكين بعاطفة صادقة وعقل متدبر ما يلخص رؤيته:
"إنَّه لا يسرني بأن تكون الأعمال الخطرة للعلماء المسلمين والعرب في
تاريخ العلوم واسطة لمجرَّد الفخر عند أحفادهم اليوم، ولكنَّني أتمنَّى أن يفهم
الأحفاد هذه الظاهرة في تاريخ العلوم حقَّ فهمها وأن يستدبروا كيف
استطاعت هذه الأمَّة أن تبدأ من وسط يحسب فيه بالحساب الأصبعي ثم أخذت
كل العناصر الإيجابيَّة عند الأمم الأخرى بكلِّ استعدادٍ للأخذ دون أيِّ خوفٍ
أو تردُّدٍ ودون أيِّ عقدةٍ نفسيَّة.. بل بالثقة بالنفس والاعتماد على القدرة
الإنجازيَّة للفرد ليستطيع أن يصل إلى نتائج هامَّة في حياته ويتغلَّب على
مشاكل كبيرة... وأهمُّ من هذا أن يجد عبرة وموعظة في زهد هؤلاء العلماء
الذين كانوا يقرءون ويكتبون أكثر منَّا في ظروفٍ شاقَّةٍ، وكانوا سعداء
حقيقيِّين ومؤمنين بالله وبالعلم".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق