الأربعاء، 22 أغسطس 2018

إلى متى هذه المعاناة؟

د. ياسر بكار

السؤال
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

أنا سيدة متزوِّجة، سني 35 سنة جامعيَّة، لديَّ طفلة واحدة سنُّها 9 سنوات،
معاناتي بدأت مع بداية زواجي، رغم أنَّني تزوَّجت بعد قصَّة حب،
زوْجِي حنون وطيِّب وليْس له أي علاقة بمأساتي.

المهم أنَّ السَّبب الوحيد هو أنَّني نشأت في بيئة حضريَّة وتزوَّجت في
الأرياف، أبسط الأشياء منعدِمة، كالكهرباء والماء؛ أي: لا تلْفاز ولا
إنترنت إلخ، حاولتُ التأقْلُم مع المحيطين بي، ولكن كلّهم أميُّون،
هذا ليس تكبُّرًا مني ولكنَّه الواقع، ولم أستطع الإفصاح لوالدتي
لأن ذلك اختياري، وسبق أن حذَّرتْني.

كتمتُ معاناتي، أهملت نفسي وزوْجي، واستمر بي الحال على هذا، حتَّى
بعد أن أنجبت ابنتي أُصِبْت بالاكتِئاب، بالخوف من كل شيء، من الأماكن
الضَّيقة، من الظَّلام، من ركوب السيَّارة، من الرَّعد والأمطار الغزيرة،
من التجمُّعات، والمصيبة الكبرى أنَّني أُصِبْت بالبرود الجنسي،
وبدأت المشاكل، حتَّى إنَّني أوْشكت على الطَّلاق، راجعت أخصائيًّا نفسيًّا،
أعطاني دواء اسمه: Anafranil ولم أستفد منه وغيره، وأعطاني
Tofranil استمررت عليْه سنتين، أحْسَستُ ببعض - فقط ببعض - التحسُّن، وفكَّرت
في الإنجاب ولكنَّني أجهضت في بداية الشَّهر الرَّابع، وعاد إليَّ المرض
مضاعفًا وعدت إلى الطَّبيب النفسي، ورحلة الأدوية، ودون فائدة،
فغيَّرت الطَّبيب وارتَحْت شيئًا ما بعد أن وصف لي دواء Fluozoft
وفكَّرت في الإنجاب مرَّتين ولكنَّني أجْهِضت، مع العلم أنَّني لا أتناول الأدْوية
خلال الحمل، وظروف سكني تغيَّرت الآن وأصبحت تتوافر لي كلُّ الضروريات،
ولكنَّني لا زلت لم أتأقلم، لا مع الأرْياف ولا مع السكَّان، وخلاصة القوْل:
إنَّني أصبحت أحس بأنني كتلةٌ من الأمراض النفسيَّة الَّتي لا علاجَ لها،
وللإشارة فإمكانيَّة زوْجي المادِّيَّة لا تسمح لي بالبحْث عن أخصائي
نفْسي، ولا باقْتِناء بيتٍ في الوسط الحضري.


أرجوكم أن تجدوا حلاًّ لمُعاناتي، وآسِفة على التَّطويل؛ لأنَّنِي رغْم هذا
كلِّه قد اختصرْتُ كثيرًا، وتقبَّلوا فائقَ احتِرامي وشكري.
الجواب

الأخت الفاضلة، السَّلام عليْكم ورحمة الله.
مرحبًا بكِ وأهلاً وسهلاً.

شعرتُ بِحيرة كبيرة أمام سؤالِك، من الواضح أنَّك تعيشين في جوٍّ صعْبٍ
وغريب عنْك، والتأقْلُم فيه ليس سهلاً، أُقَدِّر ذلك، وقُلْت في نفسي:
كيْفَ يُمكن أن أُساعِد امرأةً تَعيش في هذه الظُّروف الَّتي قد لا أُطِيقُها أنا
نفسي؛ لكن طرأَ عليَّ سؤال: أيُّهم أصعب: ما تعيشه هذه الزَّوجة المحبَّة
أم ما تعيشه امرأةٌ في سجن، لا سمح الله؟! أنا لا أقارن هنا؛ فلا مجال للمقارنة،
لكن أودُّ أن أسأل نفسي: في السُّجون يعيش الكثير من الناس متأقْلِمين
دون معاناة من خوف أو قلق أو اكتئاب، هل البيئة المحيطة
هي المشكلة؟ من الواضِح أنَّ الإجابة: لا؛ لأنَّه لا يمكن أن يكون السِّجن
أحسن حالاً من البيئة التي تعيشين فيها، إذًا أين المشكلة؟

التأقلُم هو من الأمور التي نتباين فيها - نحن البشرَ - بشكل كبير؛ لكِن
من الواضح أنَّنا يُمكننا الوصول إلى قدْرٍ كبير منه عبْر بذل الجهد وتَحسين
ظروف حياتنا اليوميَّة، وإيجاد طريقة لاسْتِثْمار هذه الظروف لتلبية رغباتِنا
أو شعورنا بالأهميَّة، دعيني أكرِّر: استثمار هذه الظُّروف الصَّعبة من أجل
تَحقيق وتلْبِية رغباتنا أو شعورنا بالأهميَّة، وبالتَّالي سعادتنا في الحياة.

كيف يمكن أن يحدُث ذلك؟
لا أستطيع أن أُجيب بشكلٍ دقيق، فهذا يعتمد على ما هو مهمٌّ بالنسبة لك،
وهذا مختلف عن ما هو مهمٌّ بالنسبة لي أو لشخص ثالث، أمَّا أنا فقد أجِد
من الممتِع أن أُساهِم في تطْوير الوضْع الثَّقافي والديني في القرْية التي
أعيش فيها، قد أجد من الممتع أن أُضيف إلى حياة هؤلاء البُسطاء من
الناس شيئًا مفيدًا، قد أجد من المثير أن أعمل على اكتشاف المميِّزات
من البنات الصَّغيرات في هذه القرية وأسعى لدعْمِهنَّ مثلاً، هناك أمور
أُخْرى كثيرة يمكن أن أساهم فيها بِشكْلٍ أو بآخر؛ حتَّى أُضْفِي على حياتي معنى،
وأودُّ منك أن تسألي نفسك: ما الَّذي يمكن أن تفعليه حتَّى تحقِّقي لنفسك الرضا والسرور؟

هذا العمل يجب أن يسبِقَه تغيير في موقفِك النفسي تجاه طبيعة الحياة
والبيئة الَّتي تعيشين فيها، من المشكِلات التي فاقمت
وضْعَك أنَّك تقولين لنفسك كلَّ يوم:
ما هذه الورْطة الَّتي ورَّطتُ نفسي فيها! لا يجب أن أكون هنا،
أنا الحضريَّة أعيش في الرِّيف! يا لَها من عيشةٍ قاسية! كيف يحدث
ذلك وأنا ابنة الحضَر والتقدم؟! لو تركتُ زوْجِي فماذا سأقول لأمي؟! ،
وغير ذلك الكثير من العبارات السلبيَّة التي تقولينها لنفسِك كلَّ يوم،
سواء انتبهتِ لذلِك أم لم تنتبهي؛ ولِهذا الحديث السلْبي أثرٌ كبير على
قُدْرتك على التَّأقلُم والانتِقال من مرحلة المعاناة إلى مرحلة العطاء.

من الأُمُور الأُخْرى التي يُمْكِن اللُّجوء إليْها لتغيير هذه الوضعيَّة
هو الاتِّصال بالعالم الخارجي عن طريق الشَّبكة العالميَّة الإنترنت، لا أدْري إن كان
متوفِّرًا لديْكم؛ لكن الإنترنت غيَّر حياة الكثيرين إلى الأفضل، كما غيَّر
حياة آخَرين إلى الأسوأ.

نعم؛ فالاتِّصالُ بالعالم عن طريق النت يتيح لك فرصًا هائلة للعيش في
المكان الذي تحبِّين متى ما أردت ذلك، لقد سمعتُ يومًا أحد أثرياء العالم يقول:
لو خُيّرت بين أن أكون ذكيًّا وأعيش في نيودلهي - إحدى مدن الهند -
أو أن أكون عاديًّا وأعيش في نيويورك، لاخترت الأولى ،
هل تعرفين لماذا؟ لأنَّه عن طريق النت والاتِّصال بالعالم الخارجي يُمكن
للذَّكيِّ والواعي والمثقَّف أن يحقق إنجازاتٍ لا يمكن لشخْصٍ عادي تحقيقُها
وهو في أرْقى مدينة في العالم، تأمَّلي هذا الأمْر، وفكِّري:
كيف يمكنك الاستفادة من هذه الثَّروة بشكل صحيح؟

أمَّا بالنسبة للعلاج الدَّوائي، فلا أعتقِد أنَّه يُضيف الكثيرَ إلى حياتك، إذا
لم تُحدثي تغييرًا في نظرتِك وموقفِك النَّفسي للوضْع من حولك.

وإن كنتُ أنصَحُك بالمواصلة على (الزولوفت)، فهو دواءٌ جيِّد، وليس
له أعْراض جانبيَّة مهمَّة.

ختامًا: لابدَّ أن أذكرك هنا باحتِساب الأجْر عند الله لِما مررتِ به من معاناة
في سبيل الحِفاظ على بيتِك وعلاقتك الزوجيَّة، هذا إنْجاز يَجب أن تحمَدي
الله عليه وتفتخري به، وأن تحتسبيه؛ ففي ذلك الأجْر الكبير.


منقول للفائدة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق