الجمعة، 3 يناير 2020

سلسلة أعمال القلوب (71)

سلسلة أعمال القلوب (71)

النقطة التاسعة ثمرات اليقين:

والأمور التي يؤثرها في سلوك الإنسان، وفي قلبه،

وفي سائر تصرفاته وأعماله:

* الثالث: من الأمور التي يثمرها اليقين في سلوك الإنسان: أنه يورثه الزهد

في الدنيا وقصر الأمل: فلا تتعلق نفسه بها، ولا يتشبث بُحطامها، وإنما

يكون زاهداً فيها؛ لأنه يعلم أنها ليست موطناً له، ولأنه يعلم أنها دار ابتلاء،

وأنه فيها كالمسافر يحتاج إلى مثل زاد الراكب، ثم بعد ذلك يجتاز ويعبر إلى

دار المقام، فهو بحاجة إلى أن يشمر إليها، وأن يعمل لها، ولهذا لما قال

النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:

[ قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ]

فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ

وَالْأَرْضُ قَالَ: [نَعَمْ] قَالَ: بَخٍ بَخٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

[مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ] قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ

مِنْ أَهْلِهَا قَالَ: [فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا] فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ

قَالَ لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ

مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم .

فما الذي جعل هذا الإنسان يعد هذه اللحظات- التي لربما لا تتجاوز الدقائق

القليلة يعدها- حياة طويلة؟! وما الذي جعل الإنسان الآخر لربما عاش مائة

سنة ومع ذلك هو متمسك بالدنيا، وبالحياة بيديه ورجليه؟ ما الذي يجعل هذا

بهذه المثابة، والآخر بتلك المثابة؟! يقول بلال بن سعد رحمه الله:'عباد

الرحمن اعلموا أنكم تعملون في أيام قصار، ولأيام طوال، في دار زوال لدار

مقام، ودار حزن ونصب لدار نعيم وخلد، ومن لم يعمل على اليقين، فلا يغتر؛

لأن المصير حتماً سيقع إما إلى الجنة وإما إلى النار'. وكان يقول:

'كأنّا قومُُ لا يعقلون، وكأنّا قوم لاُ يوقنون'.

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن الذي يجعل الإنسان يتشبث بهذه الحياة الدنيا

هو ما غُرس في قلبه من محبتها، وما زُيِّن في نفسه من شأنها، وكذلك ما

يتعلق بها من محبة الإنسان للثناء والحمد . يقول:'ما تأخر من تأخر إلا بحبه

للحياة والبقاء، وثناء الناس عليه، ونفرته من ذمهم، فإذا زهد في هذين

الشيئين تأخرت عنه العوارض كلها'[ مدارج السالكين 2/302] .

وهذا يعنى: أنه يُشمر في أمر الآخرة، ولهذا فإنه لا ينتهي بهذه الدنيا،

ويتكاثر فيها مع من يتكاثر، ويتكالب على حطامها إلا من كانت الغفلة غالبة

على قلبه، وكان اليقين مُترحِّلاً عنه، ولهذا يقول الله عز وجل:

{...كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ[136] }

[سورة الأعراف] .

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:

[...لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلبَكَيْتُمْ كَثِيرًا]

رواه البخاري ومسلم.

وما وجد هذا التكاثر والإلهاء عما هو أولى بالخلق منه من العمل للآخرة،

والسعي لتحصيل دار الكرامة إلا لاختلال اليقين في النفوس

[مجموع الفتاوى 16/517 – 518].

وهو العلم الذي يصل به صاحبه إلى حد الضروريات التي لا يُشك ولا يُمارى

في صحتها وثبوتها، ولو وصلت حقيقة هذا العلم إلى القلب وبشاشته؛ لما

ألهاه عن موجبه، وترتب أثره عليه، فإن مجرد العلم بقبح الشيء، وسوء

عواقبه قد لا يكفى في تركه، فإذا صار له علم اليقين؛ كان اقتضاء هذا العلم

لتركه أشد، فإذا صار عين يقين كجملة المشاهدات كان تخلف موجبه عنه

من أندر شيء، وفي هذا المعنى قال حسان رضى الله عنه فيمن قُتل من أهل

بدر من المشركين:

سرنا وساروا إلى بدر لحتفهُمُ لو يعلمون يقين العلم ما ساروا

هكذا قال ابن القيم رحمه الله في كتاب 'عدة الصابرين'

[ عدة الصابرين ص 156 – 157] .

وهذا المثال يبين أثر اليقين في سلوك العبد، حيث يزهده فيما في أيدي

الخلق: دخل هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي الكعبة، فرأى سالم

بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم، فقال له:'سلنى

حاجة –فرصة ثمينة الخليفة يعرض عليه أن يسأله ما شاء، اطلب، فماذا

قال؟- قال:'إني لأستحي من الله أن أسال في بيته غيره'. فلما خرجوا قال

له:' فالآن سلني حاجتك، فقال سالم: من حوائج الدنيا أم حوائج الآخرة؟–

طبعاً حوائج الآخرة لا سبيل إليها، لا سبيل إلى تحصيلها من قِبَل المخلوقين،

هم لا يستطيعون أن يعطوك شيئاً من أمور الآخرة- قال:' بل من حوائج

الدنيا' قال:' والله ما سألت الدنيا من يملكها –يعنى الله، يقول: أنا ما دعوت

قط ربي أن يعطيني شيئاً من حُطام الدنيا- ما سألت الدنيا من يملكها،

فكيف أسأل من لا يملكها!'.

لاحظتم.. اليقين كيف يؤثر؟ هذه فرصة ثمينة لا تعوض عند كثير من الناس،

يعرض عليه الخليفة، أو الملك أن يطلب ما شاء، فهذا يأبى أن يسأل حاجة

من هذا المخلوق، ولذلك قيل:'أنفع اليقين ما عَظَّم الحق في عينك –

أن تُعظّم الله عز وجل، وتُعظّم أمر الله جل جلاله- وصغّر ما دونه عندك- فمن

الخلق؟ وما غنى الخلق؟ ماذا عندهم إزاء غنى الله عز وجل؟ -

وثبّت الرجاء والخوف في قلبك' .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق