الاثنين، 6 يوليو 2020

مودة ورحمة.. عن الحب في القرآن


مودة ورحمة.. عن الحب في القرآن

أن تستقر روحين لبعضهما وتهدأ في طمأنينة وتوادد فذلك من أعظم آيات

الله وتجلياته في الوجود وفي فطرةِ البشر؛ فما من نفسٍ بشرية سليمةٍ

إلا وتتجاذبها ذاتيتها تسوقُ خطاها لنفسٍ جعلها الله وثيقة الصلةِ بقطبها

الآخر فتتآلف الذوات وتتراحم وتفتدي بعضها؛ والحبُ مصدره سامي فهو

في أشدِ مصداقيته تتكسرُ أمامه حواجز المادة وتنهار بنية المصلحة الذاتية؛

فالحب قاهرٌ للمادية الصرفة التي تخلو من التضحية والبذل. إن الحب

مصدره إلهي صرف. بيد أن الحب في التصوّر القرآني له بُعد أعمق في تربة

الإنسان؛ إنه نفحةٌ من الله يجب أن تدركها أرواحُ المتحابين وهو من هنا أكبر

من التقاء جسدي ظاهري فهو هنا تضحية وبذل وصبر على الزلات

والأخطاء؛ وهذه الروح في التصور القرآني لابد أن تكون متبادلة.



والحب في تصور القرآن إنما هو شعور روحين أنهما من الله وإليه فهو

التقاء على تقوى الله والعفاف وصون النفس البشرية عن التخبط في

الشهوات ؛ فالأرض دار بلاء واختبار فالحبيبة الحقة تقود محبوبها لأفق

السماء وتربطه بلغة الوحي وتحثه على التوق إلى الله؛ إن الحب في القرآن

هو لبنتين التقتا على سموٍ رفيع أرفع من مما تلتقي عليه سائر مخلوقاتِ

الله من كلا ومرعى. ويمكن القول أن الحب في التصور الإسلامي هو التقاء

روحين مدركتانِ أنهما من الله وإليه لصياغة أرواح جديدة بنفس الإدراك.

يقول الله تعالى:



{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا

وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

(الروم 21).



إن من يتأمل هذه الأية يدرك المعنى العميق لنص السماء ؛ فقبل كل شي

ما الحب إلا آية من آيات الله؛ أن تركن روحك وتستقر وتسكن لإحداهُن فذلك

أولا آية من آيات الله عليك التامل فيها والتدبر في أبعادها ليستقر الإيمان

في قلبك فمن أين لك بالحب لولاه.



ماذا عن الحب قبل الزواج؟

ما أجمل أن تُحب من جمعتكَ بها شُغُوفُ الفكرِ والدينِ والدعوة؛ ما أجمل أن

تنصحها بالتقوى وتدُلّك هي على العفاف في كل صراحةٍ وقوة؛

ما أجمل أن تسيرا إلى الله بتعاليمه



لقد أمر الله في تعاليمِ القرآن بالتزامات عظيمةٍ تحفظ الإنسان من الشيطان؛

فقد فطر الله الإنسان على الحب وبيد أنه رسم خطوطاً حمراء لابد من الالتزام

بها؛ من ضمنها غضُ البصرِ وحفظ الفرج والتعفف عن الحرام ؛ أما الحب

القائم على التزام الطرفين بتعاليمِ الله وتبادل النصح والتقوى والمنافع

والتحاور والتشاور فهو الذي تأسس على تقوى من الله ورضوان.

يقول الله تعالى:



{ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ

ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)

وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ }

(النور 31).



وغضٌ البصر ليس حالةٌ ظاهرية مرئية فقط بل له بعد في الذات الإنسانية

والنفس الإنسانية وما كل نظرةِ بالضرورة تصحبها شهوة فالحرام بذرة متى

ما نبتت في الذات ينبغي غض البصر؛ وغضٌ البصر تبعيض يدل على

ارتباطه بالذات الإنسانية ولذلك لم يأتي النص بصيغة العموم بل بصيغة

التبعيض ، فلم يكن امر الله بكف البصر إطلاقاً بل قال ( من أبصارهم ) اي

أنه ينبغي كفٌ البصر متى وقع في النفس شيء وقد ذكر الدكتور الترابي

مقولة رائعة في ذلك وقال: "ولا ينبغي أن ينظر الرجل إلى المرأة ولا المرأة

إلى الرجل باسترسال يزكّي دواعي الفتنة؛ بل ينبغي كفُ البصر

متى وقع في النفسِ شيء".



ما أجمل أن تُحب من جمعتكَ بها شُغُوفُ الفكرِ والدينِ والدعوة؛ ما أجمل أن

تنصحها بالتقوى وتدُلّك هي على العفاف في كل صراحةٍ وقوة؛ ما أجمل أن

تسيرا إلى الله بتعاليمه؛ ما أجمل أن تخططا لزواجكم معاً وترسما معالم

مستقبلكم في حضن القرآن ودفئ تعاليمه دون خدش للحياء او إطلاق

للشهوات فأنتما حينها محفوظان بجلال الله ما دمتم بهذا الوضوح والصرامة

من الالتزام بتعاليم الله. وهل الطريق في الحياة إلا ان يتوالى المؤمنون

والمؤمنات بعضهم إلى بعضٍ يقتبسُ كلّ منهما من نورِ الآخر ليبدد كلُّ منهما

ظلام الآخر أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر؟ ، كما قال الله:



{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ

عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ

أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

، (التوبة 71).



بيد أن هناك أشرارٌ وأغبياء لم تنبت في قلوبهم فطرة التقوى؛ فمن صَلُح قلبه

صَلُح سلوكه؛ إنهم المتحابون ضلالاً والمتلاقين شهوةً لا تقوىً؛ الذين

جمعهم حبُ الاكل وترفُ الشيطان؛ ولم تجمعهم ساحات الدين ولا ميادين

الفكر ولا الفن الرفيع الذي يبعث في الروح ثورةً ويحرك في القلب روح

الجهاد؛ أولئك عليهم غطى الشيطان وبهم تلاعبْ وعلى سمعهم دندن

فابتعدوا عن هدي الله فكان حديثهم لغواً وفُنُونُهم رزيلة؛ اجتمعوا على

المُجونِ والفجور؛ وشتان شتان بين روحين جمعت بينهما أواصرُ الدين

وبواباتُ الفكِر والجهاد لإخراج الناسِ من التيه وبين روحين جمعت بينهما

حفلةُ رقصٍ وسفه ضئيل؛ وشتان شتان بين روحين جمع بينهما خلود القيم

والعفاف ووضع الأمورِ في نصابها وبين روحين غطى عليهما الطين

مستعلياً على روح الإنسان السامية التي ينبغي أن تستعلي على الحرام.



ما أرفع أن يجتمع قلبك بأنثى طاهرة لا تمدك إلا بالنصح ولا تهديك إلا سبيل

الراشد؛ أنثى قوية روحها رقيقة الطبعِ لطيفة المجلس واسعةُ الفكر؛ همها

البحثُ وغايتها الله؛ تأخذ بيدك إلى مرافئ الإيمان؛ أيستحيل ذلك؟ كلا إنهنّ

موجودات مبثوثاتُ في عالمنا إلا أن الدُرّ يحتاجُ من يغوص! وما أرفع

وأعظم أن تجدي من يأخذ بيديكِ للهدى والرشد؛ من تنسجم روحكِ مع روحه

ويجمعكما مشروع فكر ودعوة وصلاح نفوس وسعي لله موثوق الخطى

متكرر التصحيح للأخطاء؛ سير توّاب أوّاب رجّاع لله.



أنا لست ضد الحب قبل الزواج بل ضد أن يختلّ ميزانُ الشرع في العلاقة بين

الرجلِ والمرأة؛ والحب في ذاته فطرة لا يمكن مناقضتها ولكن يجب أن نُبعِد

عن هذه الفطرة النقية كل ما لا يليق بها مما حرمه الله؛ فما بُني على تقوى

الله خير وما بني على معصيته شر؛ والحبِّ والمودةُ آيةٌ من آيات الله تبعث

على التأمل والتدبر والتزاوج سكينةٌ تهدأ إليها النفوس وتستقر فيها القلوب.

وموقفي هذا لا يعني أن الزواج القائم بلا سابقِ علاقة حب أنه زواج فاشل

فليس ذلك مقياس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق