الأحد، 28 نوفمبر 2021

البلاء نعمة

 

البلاء نعمة

بسم الله الرحمن الرحيم
أحمَدُ الله إليك، وأصلِّي وأسلِّم على رسول الله، فقد وصلني كتابك يا أخي،
وفيه أنك تشكو من شحوب دهرك، وقلة ذات اليد، وانقطاع ما تقوم به
حياتُك، وموت أحبائك وجفاء الناس من حولك، وذبول الأمل في قلبك،
وظهور اليأس في صدرك، حتى كاد حرفك أن يسيل دمًا!

اعلم أخي أنه منذ أنْ خُلِقَتِ الدنيا ولها نواميسُ لا تُخطئها، من عَلِمها
وعاش بها أفلح، ومن فعل غير ذلك تعس، وقد جُبِلت النفس البشرية
والدنيا على أن كل راحة يسبقها تعبٌ، وكل نَصَب يتبعه سعادة، وكل
سعادة متواصلة من غير تعبٍ يسبقها أو يطرأ عليها يذهبُ طعمها
ورائحتها ورونقها، والنفس إن بقيت بلا شقاء كان شقاؤها أشدَّ،
وإن أُترفت بعد معاناة كان ألذَّ.

وهذا تجده مرسومًا في نواحي الدنيا، سبحان الخالق الذي خلق وبرَأَ
ونظَّم كلَّ شيء في مكانه المناسب، فهذه الأشجار تحتاج لطول عناء
وتعب، ثم تثمر وتتزيَّن بألوانٍ تسُرُّ، وشأن الولادات وما يصاحبها
من تعب ونصب، وربما يبلغ ذلك أن تموت الأم أو وليدها، ثم ما زال ينمو
ويشتد في ألمٍ متتابع حتى يغدو قائمًا بنفسه، وكلُّ شيء في الدنيا يحتاج
لعمل وصبر حتى يصلح.

وتجده في كل تفاصيل النفس البشرية، فصحةٌ طويلة بلا مرض يُلِمُّ بها
أو عارض خفيف، يميت إحساسَ النفس بهذه النعمة، وتسأمها وتَمَلُّ
منها، فكل العوارض جالبة للسعادة، وكل النِّعم الخالية من ذلك
إنما هي نكدٌ وهمٌّ ولو أعجَبَك ظاهرها.

وهذا في أصل البلاء الواقع على النفس، يروِّضها ويهذبها وينقيها، ويعلو
بها ويعلِّمها، ويؤتيها الحكمة والخبرة النافعة، فكيف إن عَلِمنا أنه
بلاء غير عشوائي، بل من الله؟!

والنفس لو تُرك لها أن تختار كلَّ ما تشتهيه مطلقًا لفسَدتْ، فأي أحد
سيبقى على زوجة وولد وتجارة وعلم؟ بل تجده في كل يوم يجرِّب شيئًا
جديدًا، حتى ينفضَّ زمانُه عنه ولم يستمتع بشيء أو يبقى له أحد،
وقد انتبه لهذا علماءُ نفس النمو، فقالوا بأن الطفل لو كثُرت خياراته
من اللعب أو الحلوى لقلَّتْ سعادته، ولو خيَّرتَه بين اثنين لكان أسعد.

والنفوس مجبولة على العيش في البلاء، بل هذا السبيل الأكمل للعيش
السعيد، ويختلف البلاء المناسب حسب الفرد والبيئة والزمان والقوة،
ولكن الله لا يُنزِلُ مصيبة إلا ومعها معونةٌ من قابلية النفس للتحمُّل
والعيش مع البلاء ومقاومته، ومن جهة أخرى هذا اختيار الله الحكيم
العليم، واختياره خيرٌ من أي اختيار، ولا يختار إلا الأصلح، فكيف
وقد علمتَ أن ما يوقعه - من أمر خارج قدرتك - هو خيرٌ لك؟ أتزعُمُ أنك
مؤمن وإن رأيتَ ما تكره انتفَضَ قلبُك، وقلَّ صبرك؟! أتزعم أنك صابر
وإن رأيتَ كريهةً أبديتَ الضجر واللعن؟!

إنما كان أصل الإيمان لهذه الغيبيات، أن تؤمِن بربك ولم تَرَه، أن تؤمن
باليوم الآخر ولم تره، وبالنبي صلى الله عليه وسلم كذلك، وأن تشريعاته
كلَّها خيرٌ ولو لم تطَّلِع على كل حكمة فيها، هذا هو الإيمان واليقين، وبقدر
يقينك تُفلِح، فتيقَّنْ بخيرية قضاء الله لك، فهو خيرٌ عاجل أو آجل، ومطهِّرٌ
من الخطايا ويرفع الدرجات، ومقوِّمٌ لسلوكك، وينفي عنك الخبث
في نفسك وفي من حولك، فكم مِن ذي نعمة كان الناس حوله كأنهم حمام
مجتمع على طعام، فلما كَرُب انفَضُّوا عنه وبان له كذبُهم وشرُّهم، أليس
ذلك خيرًا من أن ينخدع بهم ويخدعوه وينتفعوا به من حيث لا يشعر
المسكينُ، والله لو تفكَّرتَ في حِكَمِ الله لما شكوتَ ساعةً من قدره.

يتأخَّر الفرَجُ لأنك تحتاج لعصرةٍ أقوى تُخرِجُ أجمَلَ ما بداخلك، تُزيلُ كلَّ
شيء تافه علق بك، ضمَّة تطيقها مخرِجة دَرَنَك، وهذا الابتلاء يأتيك
حسب طاقتك، لا يأتيك شيء لا تطيقه، ينزِّل الله تعالى القوة الكافية
في الإنسان ليتعامل مع هذا البلاء؛ اقرأ إن شئت:
{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا }
[البقرة: 286]، واقرأ
{ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ }
[البقرة: 286]، وفي الحديث:
(فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ
، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ)

أحيانًا يتأخَّرُ الفرَجُ لأنك لم تدعُ بطرق سليمة؛ لأنك لم تقترب من الله
العظيم أكثر، لأن عملك لم يكن به القوة الكافية، لأنه يريد أن يقرِّبك قبل
أن يجيب دعاءك، يريد أن يمنحك هذا القرب ويهبك الفضل منه والرحمة،
فإن لم تنزل بك النازلة لم تكن لتدعوه، ولو زعمتْ نفسُك أنك ستصلُح
لو نزل عليك الفرج، فأَعْلِمْها بأن النِّعم في غير وقتها تكون وبالًا
على العبد، وتُبعِده عن ربه، وتُميتُ العبوديةَ بداخله، تقتُل إحساسه
بالنِّعم والتلذُّذ بها.

وإن النفوس الكاملة حين فقهت هذا الأمر سُرَّتْ بكل مصيبة تنزل عليها،
فقال بعضهم: لم يَبْقَ لي من السرور إلا في مواضع القدر، فكان إن رأى
عافية وخيرًا شكر الله وأدَّى حقَّها، وإن رأى غير ذلك صبَر ورضي، فهذا
هو المؤمن الذي أمرُه كلُّه خير، وعلى أي صفة عاش كان في سرور.

ولا تظنَّنَّ أن الدنيا كلَّها سوادٌ في سواد، أو تعيش عمرك تتجهز لظلامها،
بل أيام العافية أكثر من أيام البلاء، والعسر عارضٌ واليسر الأصل، ولكن
كثيرًا من الناس يجعل من يوم مُرِّهِ أيامًا، ومن وقت الضيق أوقاتًا، إن
أُصيبَ يجزع ويُوَلْوِلُ ويصرخ، ويتحدَّث بحقير بلائه أيامًا عدة، فلا يدع
أحدًا يعرفه أو لا يعرفه إلا حدَّثه به، واشتكى وأظهَرَ ألمه وجزعه، فيصبح
ما أصابه كثيرًا، وربما تألَّم مثلَه بعضُ أحبائه فيحمِّلهم همَّه، وأنت تجدُ
أن الرجل إنْ تَصبَّرَ وهو ليس بصابر كان أحسن حالًا ممن لا يَتصبَّر ألبتة،
ومن تَشجَّعَ وهو على خلاف ذلك كان أشجع من الجبان المُظهِر جُبْنَه،
وجاء في ديننا أن من يَتصبَّرْ يُصبِّرْه الله، ومن يستغنِ يُغنِهِ الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق