الحمد لله ذي الإفضال والإنعام
الحمد لله ذي الإفضال والإنعام،
والمِنن الجِسَام، والأيادي العِظَام،
ذي الجلال والإكرام، الملك القدّوس السلام،
الذي قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام.
فقدَّر أرزاقهم وآجالهم، وكتب آثارهم وأعمالهم، وقسم بينهم معايشهم وأموالهم
ــ وعرشه على الماء ــ قبل خلق الليالي والأيام.
فأبرم القضيَّة، وقدَّر البريَّة، وقال للقلم: اكتب،
فجرى بما هو كائن في هذا العالم على تعاقب السِّنين والأعوام.
ثم خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام،
ثم استوى على عرشه المجيد بذاته، منفردًا بتدبير خلقه بالسَّعادة والشقاوة،
والعطاء والمنع، والإحياء والإماتة، والخَفض والرَّفع، والإيجاد والإفناء، والنقضِ والإبرام.
{(يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:٢٩]،
فلا يشغله سَمْعٌ عن سَمْع، ولا تُغَلِّطُه المسائل،
ولا يتبَرَّم بإلحاح الملحِّين على الدوام. يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تَفنُّنِ الحاجات ،
ويرى دبيبَ النملة السوداء، تحت الصَّخرة الصماء، في الليلة المدلهمَّة الشديدة الظلام.
لا تسقط ورقةٌ إلا بعلمه، ولا تتحرك ذرَّة إلا بإذنه، ولا يقع حادثٌ إلا بمشيئته،
ولا يخلو مقدورٌ عن حكمته، فله الحكمة الباهرة،
والآيات الظاهرة، والحجَّة البالغة، والنعمة السابغة على جميع الأنام.
وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأوسع كل مخلوق فضلًا وجودًا وحلمًا، وقَهَر كلَّ شيءٍ عزَّةً وحُكْمًا،
فَعَنَت الوُجوهُ لجلال وجهه، وعجزت العقولُ عن معرفة كُنْهِه، وقامت البراهين على استحالة مثله وشِبْهِه.
فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء،
ذو الأسماء الحسنى، والصفات العُلى، وهو مُسْتوٍ على عرشه، مُسْتولٍ على خلقه، يسمع ويرى.
كلَّم موسى تكليمًا، وتجلَّى للجبل فجعله دكًّا هشيمًا، فهو الحيُّ القيوم الذي لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام.
يخفض القِسْط ويرفعه، يُرفَع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور،
لو كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
فهو أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، وأعظم رقيب، وأرأف رحيم، حال دون النفوس، وأخذ بالنواصي،
وكتب الآثار، ونسخ الآجال، فأزِمَّة الأمور بيديه، ومرجعها كلها إليه، فالقلوب له مُفْضِية، والسِّرُّ عنده علانية،
والمستور لديه مكشوف، وكلُّ أحدٍ إليه فقير مَلْهوف على الدوام.
فسبحان مَن نفذ حكمُه في بريّته، وعدل بينهم في أقضيته، وعمَّهم برحمته،
وصرَّفهم تحت مشيئته وحكمته، وأكرمهم بتوحيده ومعرفته، وجعل أهل ذكره أهل مجالسته،
وأهل شكره أهل زيادته، وأهل طاعته أهل كرامته، وأهل معصيته لا يُقنطهم من رحمته،
إن تابوا فهو حبيبهم، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: ٢٢٢]،
وإن أصرُّوا فهو طبيبُهُم، يبتليهم بأنواع المصائب؛ ليطهّرهم من الدَّنَس والآثام...
ابن القيم | شفاء العليل
الحمد لله ذي الإفضال والإنعام،
والمِنن الجِسَام، والأيادي العِظَام،
ذي الجلال والإكرام، الملك القدّوس السلام،
الذي قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام.
فقدَّر أرزاقهم وآجالهم، وكتب آثارهم وأعمالهم، وقسم بينهم معايشهم وأموالهم
ــ وعرشه على الماء ــ قبل خلق الليالي والأيام.
فأبرم القضيَّة، وقدَّر البريَّة، وقال للقلم: اكتب،
فجرى بما هو كائن في هذا العالم على تعاقب السِّنين والأعوام.
ثم خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام،
ثم استوى على عرشه المجيد بذاته، منفردًا بتدبير خلقه بالسَّعادة والشقاوة،
والعطاء والمنع، والإحياء والإماتة، والخَفض والرَّفع، والإيجاد والإفناء، والنقضِ والإبرام.
{(يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:٢٩]،
فلا يشغله سَمْعٌ عن سَمْع، ولا تُغَلِّطُه المسائل،
ولا يتبَرَّم بإلحاح الملحِّين على الدوام. يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تَفنُّنِ الحاجات ،
ويرى دبيبَ النملة السوداء، تحت الصَّخرة الصماء، في الليلة المدلهمَّة الشديدة الظلام.
لا تسقط ورقةٌ إلا بعلمه، ولا تتحرك ذرَّة إلا بإذنه، ولا يقع حادثٌ إلا بمشيئته،
ولا يخلو مقدورٌ عن حكمته، فله الحكمة الباهرة،
والآيات الظاهرة، والحجَّة البالغة، والنعمة السابغة على جميع الأنام.
وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأوسع كل مخلوق فضلًا وجودًا وحلمًا، وقَهَر كلَّ شيءٍ عزَّةً وحُكْمًا،
فَعَنَت الوُجوهُ لجلال وجهه، وعجزت العقولُ عن معرفة كُنْهِه، وقامت البراهين على استحالة مثله وشِبْهِه.
فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء،
ذو الأسماء الحسنى، والصفات العُلى، وهو مُسْتوٍ على عرشه، مُسْتولٍ على خلقه، يسمع ويرى.
كلَّم موسى تكليمًا، وتجلَّى للجبل فجعله دكًّا هشيمًا، فهو الحيُّ القيوم الذي لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام.
يخفض القِسْط ويرفعه، يُرفَع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور،
لو كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
فهو أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، وأعظم رقيب، وأرأف رحيم، حال دون النفوس، وأخذ بالنواصي،
وكتب الآثار، ونسخ الآجال، فأزِمَّة الأمور بيديه، ومرجعها كلها إليه، فالقلوب له مُفْضِية، والسِّرُّ عنده علانية،
والمستور لديه مكشوف، وكلُّ أحدٍ إليه فقير مَلْهوف على الدوام.
فسبحان مَن نفذ حكمُه في بريّته، وعدل بينهم في أقضيته، وعمَّهم برحمته،
وصرَّفهم تحت مشيئته وحكمته، وأكرمهم بتوحيده ومعرفته، وجعل أهل ذكره أهل مجالسته،
وأهل شكره أهل زيادته، وأهل طاعته أهل كرامته، وأهل معصيته لا يُقنطهم من رحمته،
إن تابوا فهو حبيبهم، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: ٢٢٢]،
وإن أصرُّوا فهو طبيبُهُم، يبتليهم بأنواع المصائب؛ ليطهّرهم من الدَّنَس والآثام...
ابن القيم | شفاء العليل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق