الثلاثاء، 10 مارس 2020

فضل الرحمة في الإسلام ومظاهرها 1


مفهوم الرحمة

تمهيدًا للحديث عن فضل الرحمة في الإسلام ومظاهرها كما وردت في القرآن الكريم والسنّة
وفي كتب السيرة النبويّة العطرة لا بدّ من توضيح المفهوم الرئيس للرحمة في اللغة والاصطلاح،
فالرّحمة هي واحدةٌ من الأخلاق المحمودة وصفةٌ من صفات الله العظيمة ومن صفات أنبيائه ورسله
والصّالحين من عباده المخلصين، والرّحمة في اللغة من الرقّة والعطف،
ومنها جاء قول صلة الرّحم: أيّ القرابة وعلاقتهم ببعضهم البعض، أمّا في الاصطلاح فهي رّقةٌ لا تكون
إّلا بالإحسان إلى الشيء المرحوم، والرقة تكون في النفس والقلب فهي تبعث السرور والطمأنينة
للمرحوم وتضفي إلى النّفس طابع المحبّة والإحساس بالشخص الآخر.[١]



الرحمة والتراحم في الإسلام

الرحمة في الإسلام خلقٌ عظيم لا نظير له، فقد كتب الله على نفسه الرحمة ما هو مؤكد في سورة الأنعام في
قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}،
[٢] لتكون صفة الرحمة من الكلمات والصّفات الأكثر تكرارّا في القرآن الكريم، فالقرآن الكريم هو أوّل ما يلفت الأنظار في حياة المسلمين،
فهو دستورٌ لهم وأهمّ مصادر الشريعة والتشريع، وقد أخبر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- عند قراءته
بالتزام البسملة والتي تحمل فيها قول "الرحمن الرحيم" وهما اسمان مشتقّان من الرحمة ويكونان في صيغة المبالغة.[٣]


فضل الرحمة في الإسلام ومظاهرها

روي في الصّحيح من الحديث عن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-
أنّه قال: "منْ لا يَرحمْ لا يُرحمْ، و منْ لا يَغفرْ لا يُغفرْ لهُ، و منْ لا يتبْ لا يُتبْ عليهِ"،[٤] وفي شرح الحديث
أنّ من لا يعامل النّاس حوله في مجتمعه برحمةٍ وعطفٍ لا ينال رحمة الله -سبحانه وتعالى-،
والرّحمة تكون بغريزة الإنسان كما جبل على فطرته السليمة عندما
ولد في هذه الدنيا، أو تكون رحمةً مكتسبة من خلال تجارب الحياة ومخالطة النّاس والإحسان لهم،
فمن سكنت الرحمة قلبه بين العباد نال رحمة الله العظيمة في الدّنيا والآخرة.[٥]


والحديث في هذا المقال يتمحور حول فضل الرحمة في الإسلام ومظاهرها، أمّا عن فضلها أن ينال من جعلها في
حياته رحمةً من الله ورضوانٌ كبير، وأمّا عن مظاهرها فهي تتمثّل في صور وجوانب كثيرةً لعلّ أبرزها
رحمة الله التي وسعت كل شيء فهي صفةٌ للخالق المولى -عزّ وجلّ- وخلق الرحمة المتمثل في حياة رسول الله -
صلّى الله عليه وسلّم- ورحمته بالصغار والكبار والكفار وغيرهم،
ورحمة أهل الإيمان فيما بينهم فقد أوصى القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة عباد الله المسلمين
أن يلتزموا جانب الأخلاق الحميدة والتي تموضعت الرّحمة فيها مع الصّفات العظيمة التي ينبغي على كلّ مسلمٍ أن يتمثّلها.[٦]

صور من رحمة الله بعباده

لعلّ أبرز ما يتناوله موضوع فضل الرحمة في الإسلام ومظاهرها هي صور من رحمة الله، فالله تبارك
وتعالى هو الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، ورحمة الله -سبحانه وتعالى- تتجلّى
على الخلائق عامّةً وعلى الإنسان خاصّةً، ويتجلى ذلك ابتداءً في وجود الخلق أنفسهم،
وفي نشأتهم من حيث لا يعلمون، وفي تكريم الإنسان على كثير من العالمين
وتفضيله بنعمة العقل والتفكير، ويتجلّى ذلك في تسخير ما في هذا الكون العظيم من النعم والطاقات
والقوى والأرزاق والماء والهواء، وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-
قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "أترونَ هذه طارحةً ولدَها في النارِ
قالوا لا يا رسولَ اللهِ قال لَلَّهُ أرحمُ بعبادِه من هذه بولدِها".[٧][٨]


فرحمة الله -سبحانه وتعالى- وسعت كلّ شيء، وهو ما أكّده في سورة الأعراف في قوله تعالى:
{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي
وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}،[٩]
كما أنّ من رحمة الله بعباده أن أرسل لهم الأنبياء والرّسل والكتب السماويّة لإنارة طريق
حياتهم ليهتدوا إلى الصّراط المستقيم، كما أنّ رحمة الله تعالى هي من تدخل النّاس الجنّة، فلا يدخلها أحدٌ بعمله كما جاء في الصّحيح:
"لَنْ يُدْخِلَ أحَدًا مِنكُم عَمَلُهُ الجَنَّةَ قالوا: ولا أنْتَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ منه بفَضْلٍ ورَحْمَةٍ".[١٠][١١]


صور من رحمة الأنبياء والرسل

الحديث عن فضل الرحمة في الإسلام ومظاهرها يقتضي الحديث عن رحمة الأنبياء والرسل، فالرّحمة خلق
الأنبياء فقد بنى الأنبياء والرسل تعاملهم مع أقوامهم على الرّحمة، وذلك على الرّغم ممّا لاقوه وقاسوه من الأذى منهم،
وكانوا -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- دائمي الدعاء لهم بالهداية والمغفرة، عسى أن يمنّ الله عليهم
فيتوب عليهم ليتوبوا ويهتدوا إليه، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال:
"كَأَنِّي أنْظُرُ إلى النبيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأنْبِياءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فأدْمَوْهُ، فَهو يَمْسَحُ الدَّمَ عن وجْهِهِ،
ويقولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ".[١٢][١٣]


فضل الرحمة في الإسلام ومظاهرها من حياة الأنبياء والرّسل عديدة، فها هو نبيّ الله نوح -عليه السّلام-
كانت تحمله الشفقة والرحمة على قومه يوم أن فاض التنور، قال تعالى في سورة هود:
{وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ *
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}،[١٤]وسيّدنا ابراهيم -عليه الصّلاة والسّلام-
حينما كان دائم الجدل عن قوم لوط، ويستغفر لهم كي لا ينالهم عذابٌ الله، قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ *
يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۖ إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ۖ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}.[١٥][١٣]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق