الأحد، 4 أكتوبر 2020

دموع الخاشعين

 

دموع الخاشعين



يستهل الطفل حياته بالصراخ والبكاء معلنًا قدومه إلى هذه الدنيا، يكون

بكاؤه وسيلة التواصل بينه وبين من يعتني به؛ لتلبية احتياجاته إلى أن يبدأ

بالتعبير عنها بالكلام؛ فيتقلص البكاء، بيد أن البكاء يبقى حاضرًا في حياة

المرء؛ لحزن أو ألم، أو سرور، أو خشية وخشوع.




حياتنا خليط من الأفراح والأحزان، فلا الفرح يدوم ولا الحزن كذلك،

والأحزان تتعب النفوس وتمرض الأبدان أحيانًا، والناس متفاوتون في القدرة

على تحملها؛ فمن الناس من تراه جلدًا عند المصائب، لا يذرف دمعًا أمام

أحد، لكن قلبه ينزف دمًا، فإذا أوى إلى فراشه تكالبت على خاطره الهموم

فأبكته حزنًا أو ألمًا بعيدًا عن العيون، وصنف يبكي لأن قلبه لا يحتمل.



من الطبيعي أن الموت الذي يداهمنا فيفجعنا بالأحباب، يحزننا ويبكينا؛ وقد

حزن النبي صلى الله عليه وسلم لوفاة ابنه إبراهيم، ودمعت عيناه وقال:



((إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا،

وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون))؛ الراوي: أنس بن مالك،

أخرجه البخاري ومسلم.



وفراق الأحباب بالهجرة، أو السفر للعمل أو التعليم يحزننا ويبكينا.



تكاد الحياة لا تخلو من الهموم التي يتألم المرء بسببها ويكاد يبكي؛ فمثلًا:

تراكم الديون حمل ثقيل وهمٌّ يؤرِّق صاحبه، أو فقر شديد ألم به، أو آلام

جسدية اشتدت عليه ويخشى على نفسه الجزع وعدم الصبر، أو ألم نفسي

بسبب ضغوط شديدة عليه من البيئة المحيطة به ما عاد يحتملها.



نحزن ونبكي على مصائبنا ومصائب غيرنا، ونتعاون جميعًا على تقديم العون

المادي والمعنوي للمكلومين ومواساتهم، تطوي الأيام بعض آلامنا وأحزاننا،

لكن البعض يبالغ في حزنه وبكائه، أو يتسخط ويجزع فيتعب ويُتعِب مَن

حوله، فيُنصح ويُذكَّر بأمور؛ ليتغلب على أحزانه وينال أجر الصابرين.



كيف يواجه المؤمن الأحزان والآلام والهموم؟

1- بالصلاة والصبر؛ قال تعالى:



{ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ }

[البقرة: 45].



2- الدعاء: كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يستعيذ بالله من الهموم؛

فيقول أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيرًا ما يقول:



((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزَن، والعجز والكسل، والبخل والجبن،

وضَلَعِ الدَّين وغلبة الرجال))؛

صحيح البخاري.



3- الأخذ بالأسباب مع حسن التوكل على الله عز وجل: فالأمور التي يستطيع

المرء دفعها، فعليه بالسعي الحثيث لمواجهتها بعمل إضافي مثلًا، ولا ننكر أن

التكافل موجود بين أفراد المجتمع، يساعد ضعيفهم قويَّهم، وغنيُّهم فقيرهم.



ولاسترداد المقدسات؛ قال تعالى:



{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ

وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ

فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } [الأنفال: 60].



تتوالى الأفراح علينا وتتنوع؛ فمن قدوم مولود إلى نجاحٍ رغم ظروف الناجح

الصعبة، وزواج الأبناء، وغيرها كثير، وردود فعل الناس متفاوتة عند سماع

ما يفرحهم؛ فمنهم من يخر ساجدًا شكرًا لله عز وجل، ومنهم من يتصدق

بشيء مما يملك، ومنهم من تنساب دموعه وقد تختلط بالزغاريد، وكأن

لسان حاله يقول: هل أنا في حُلم أم أن ما أراه وأسمعه حقيقة؟



لماذا تدمع عيوننا عند الفرح؟

دمعة الفرح تعني: أنك كنت في كرب وشدة، كنت تتألم وتتمنى وتدعو ربك

وتقول: "يا رب، يا رب، اشتد الكرب"، وأنت على يقين بأن أمنياتك

ستتحقق كما هي أو أفضل منها، وفجأة تجد أن الله استجاب لدعائك،

وأن باب الفرج فُتح لك، فأي شيء سيوقف سيلان دموعك؟!



مواقف كثيرة تمر بنا لا نتمالك أنفسنا من البكاء عند السماع بها

أو حدوثها أمام ناظرينا:

فشفاء مريض من مرض خطير، ونجاة طفل من الموت بأعجوبة، وإدخال

السرور على قلوب المحرومين، وعودة المغتربين إلى أوطانهم بعد غياب

طويل، وقدوم طفل لأبوين بعد عقدين من زواجهما، وتوبة العصاة، وإسلام

قرية بأكملها ودخول الناس في دين الله أفواجًا، رغم الجهود التي تُبذل

لمحاربة الإسلام وتشويه صورته، كل ذلك يدهشنا ويبكينا فرحًا.



دموع الفرح كل من حولنا يفهمها ويشاركنا الفرحة،

وسرعان ما تزول هذه الدهشة ويتابع المرء فرحته.



تعتري المرء حالة من الخوف والمراقبة، والتذلل لعظمة المولى عز وجل،

والشوق للقائه ودخول جنته؛ فتنهمر منه الدموع خشيةً وخشوعًا، فما الذي

يجعل الدموع تذرف خشيةً وخشوعًا؟

تلاوة القرآن وتدبر آياته أو سماعه.



التوبة والندم على ارتكاب المعاصي والآثام؛ خوفًا من عذاب الله وعقابه.



والبكاء خشيةً عبادةٌ قلبية يظهر أثرها على الجوارح، فمن رق قلبه دمعت

عيناه، ومن قسا قلبه جفت من دموع الخشية عيناه، وأفضل

علاج لقسوة القلب:



1- تلاوة القرآن وتدبر آياته: التأمل بآيات القرآن بقصد الاتعاظ والاعتبار؛

قال تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد: 24].



2- الإكثار من الذكر والاستغفار؛ فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت))؛

أخرجه البخاري ومسلم.



3- العطف على اليتامى والمحتاجين؛ ففي الحديث:

((أدنِ اليتيم منك، وأَلْطِفه، وامسح برأسه، وأطعمه من طعامك؛

فإن ذلك يُليِّن قلبك، ويدرك حاجتك)).



4- الدعاء بأن يرزقه الله عز وجل رقة القلب ودموع الخشية والخشوع؛ قال

تعالى:

{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي

سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر: 60].



فضيلة البكاء من خشية الله:

ورد في فضل البكاء من خشية الله عدة أحاديث منها:

الحديث الأول:

عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما عن الرسول صلى الله عليه وسلم

قال: ((عينان لا تمسهما النار:

عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله))؛

صحيح الترمذي.



(عينان لا تمسهما النار): لا تمس صاحبهما، عبر بالجزء عن الكل.

(عين بكت من خشية الله): بكت في جوف الليل؛ خوفًا من الله ورجاءً

وتعظيمًا له.



(وعين باتت تحرس في سبيل الله): باتت على ثغور المسلمين؛ لحراسة

البلاد والعباد من الأعداء، فسهرها كان خوفًا على دين الله.



الحديث الثاني:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عدل، وشاب نشأ

في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا

عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف

الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه،

ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه))؛ رواه البخاري ومسلم.



فاضت عيناه في خلوته؛ أي: سرًّا، لم يشهد ذلك أحد من البشر فهي صادقة،

وأبعد ما تكون عن الرياء. دمعة الخشية هذه كانت سببًا من أسباب وقايته

من حر الشمس يوم القيامة.



ما الذي يدفع المرء للبكاء في خلوته؟ وما الذي يتذكره؟

يدفعه أمور عديدة منها:

أنه رأى أحوال الناس المختلفة والمتقلبة، فتذكر ستر الله عليه ووفرة الرزق

وكثرة البنين، مع التوفيق في حياته، وأمور كثيرة طيبة؛ فبكي حمدًا وشكرًا.



وقف للصلاة، فتذكر الموت وأهوال يوم القيامة، والوقوف بين يدي الله

عز وجل والحساب؛ فبكى خوفًا وخشيةً.

أخذ يتأمل في الكون والمخلوقات، فاستشعر عظمة الخالق؛ فبكى تعظيمًا.



أخذ يتلو كتاب ربه بتدبر، ففتح الله عز وجل عليه مغاليقَ لم تُفتح عليه

من قبلُ؛ فبكى خشوعًا.



البكاء من خشية الله سمة الأنبياء والصالحين:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الخوف من الله عز وجل دائم

الخشوع في صلاته؛ فعن عبدالله بن الشخير قال:



((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز

الرحى من البكاء))؛ صحيح أبي داود.



لعظيم فضلها؛ كان كثير من السلف من البكَّائين - الذين يكثرون البكاء

من خشية الله - في بعض الطاعات.



أسأل الله عز وجل أن يرزقني وإياكم دموعًا خاشعة تقربنا إليه سبحانه،

وتخفف عنا الهموم، وتبعدنا عن النيران، وتظلنا يوم القيامة بظل الرحمن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق