الثلاثاء، 24 نوفمبر 2020

الاستثناءات المحيرة: ما سرُّها؟

 الاستثناءات المحيرة: ما سرُّها؟


مَن يفعل الخير يلقَ خيرًا، ومن يفعل الشر يلقَ شرًّا...

هل لديك شكٌّ في ذلك؟ على هذا تربَّيْنا.



منذ الصغر وهذه القواعد تُغرَس فينا بشتى الطرق، ربما هذا أكثر ما يحرص

عليه آباؤنا؛ لننشأ في بيئة إسلامية نقية تحثنا على فعل الخير وحبذا لو كان

كبيرًا، وتُجنِّبنا فعل الشر حتى ولو كان صغيرًا.



تعلَّمنا أن نتقيَ الله في كل تعاملاتنا، وأن نترك ما يغضبه عز وجل؛

حتى لا تتعكر حياتنا بسخطه علينا.



نسمعها في حكايات قبل النوم، وفي مواقف تنتهزها الأمهات لتعلم أبناءها

جزاء الإحسان في قصص الأنبياء والصحابة؛ حيث يتجلى أمام أعيننا جزاء

من صبر فَفَازَ بنصر الله، وكذلك في قصص وروايات ندخر من مصروفنا

لنشتريَها ونستمتع بنهاياتها السعيدة، وفي أفلام كرتونية نتشوق لنرى فيها

لحظة انتصار الخير على الشر، فتنمو هذه الأفكار فينا، وتحتل كِياننا وتسيطر

على قلوبنا وعقولنا؛ فلا نفكر أبدًا في التخلي عنها، إنها قواعد مريحة

للنفس الإنسانية، إن تجنبتُ الشر فسأنجو، ما أجملها من قواعد!



نعيش طفولة مليئة بالحب والرحمة والتعاون، نصادق من يحب الخير لغيره،

ونخاصم كلَّ من سبَّب لنا الأذى أو لغيرنا؛ لنُعلِّمه أن الإنسان الشرير

لن يرافقه أحد، وسيلقى جزاء شره.



تمضي الأيام، وتكبر معها تلك المبادئ التي طالما جاهدنا في الحفاظ عليها،

فنرى بأنفسنا ثمرة فعل الخير، ونرى أيضًا جزاء كل من ألحق الضرر بغيره

أو قصَّر في حق الله، فالمحسن يحترمه الجميع، والجابر للخواطر يحبه

الناس، والذي يحرص على مرضاة الله تتيسر أموره، والذي يترك ما يُغضِب

الله يأتيه العِوَضُ الجميل. أما القاسي غليظ القلب واللسان فينفر منه البشر،

والهالك في المعاصي لا يذوق طعم السعادة، في أغلب الأحيان يبدو

كل شيء على ما يرام.



ودون أية مقدمات، تأتيك أمور من حيث لا تدري تناقض ما تعتقده، وتنافي

ما رسخته في ذهنك، وإذا بهذه القواعد تُخترق فجأة؛ فيتملئ عقلك بالذُّهُول،

وقلبك بالألم، وتبدأ في التساؤل: لماذا لا ينتصر الخير؟ منذ متى وقد طرأت

هذه الاستثناءات على القواعد التي نشأنا عليها، وألِفتْها أنفسنا

وارتاحت إليها؟ أين نهاية القصة السعيدة؟



تحاول جاهدًا ألَّا تتأثر مبادئك أمام كل هذه الاستثناءات المحيرة التي تصيب

تفكيرك واعتقادك، كلما رأيتَ الشر ينتصر على الخير على عكس ما تعودتَ،

وعلى خلاف ما نشأت، عندما ترى المتسبب في الضرر ينجو بفعلته، والذي

أُلحق به الضرر يُظلم أمام عينيك، عندما ترى حياة من يتقي الله في كل شيء

مليئة بالصعاب، وحياة من لا يهمه رضاه مشرقة بالسعادة، عندما ترى

جهدك الذي بذلته هباءً منثورًا، وغيرك ممن يسلك الطرق الخبيثة

يصل للقمة دون أدنى جهد.



بالتأكيد يملؤك بعض الشك، ويبدأ الشيطان في إقناعك: "ألم ترَ بنفسك ما

حدث لهذا الثابت على مبادئه؟ أفِقْ، إن المنتصر هو ذلك الذي يصل إلى

ما يريد عن أي طريق سواء أكان خيرًا أم شرًّا، فعلام كل هذا الثبات؟

لا داعي للسعي ما دام الجزاء غير مرضٍ لك، دَعْك من ذلك!".



أليس هذا ما يغرسه هذا العدو في ذهنك في بعض الأحيان؟



إنها فرص الشيطان فيما تتعرض له من الابتلاءات، وإن من أعظم مداخل

الشيطان إلى قلب المؤمن أن يجعله يتساءل عن أقدار الله، ويشككه فيما

وعده به سبحانه وتعالى من جزاء الإحسان والصبر على البلاء.



ولكن مهلًا، أنسيتَ أنها الدنيا؟

أنسيت أنها "دار البلاء" وليس "الجزاء"؟



ببساطة، إن ما تبحث عنه ليس هنا.

إن قواعدك ليس بها أيُّ خَلَلٍ، لأن جزاءنا الحقيقي لن نلقاه

هنا على الأرض، وإنما عند الله.

قد تنال جزءًا منه هنا؛ تثبيتًا من الله وتوفيقًا منه، فقط صحح

اعتقاداتك: "هنا نسعى... هناك نلقى الجزاء".

ولا تتعجب إن انتصر الظلام على النور، ولا تهتز ثقتك في عدل الله أمام هذا

الفساد إذا انتشر في الأرض، فهو إنما ليختبر فاعل الشر هل يكمل مسيرته

أو يمتنع، وليختبر فاعل الخير هل يصبر على الأذى الذي يلقاه رغم إحسانه

أو يمتنع أيضًا، وشتان ما بين امتناع وامتناع!

نحن هنا لنلتقي بهذه الاستثناءات ما دمنا أحياء؛ ليُختبرَ كل منا في درجة

إيمانه بما أقره الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.

لو انتصر النور دائمًا وانهزم الظلام في كل الأحيان، لما كانت دار بلاء، ولما

بقينا فيها من الأساس، فلا يوجد أية اختبارات، ولا يوجد فرصة للشيطان بأن

يعبث بأفكارك، أو بثقتك بعدل الله عز وجل وبرحمته بعباده وتوفيقه لهم.

فمِمَّ تتعجب؟ وما الذي يحيرك؟

أكررها على مسامع قلبك؛ لعله ينفض عنه غبار حيرته المستمرة:

"هنا نسعى فقط".

وأما الجزاء الدنيوي الذي يستغله الشيطان ليزعزع إيماننا بقواعد الله - ما

هو إلا سحابة تحجب عن عينيك جزاءنا الحقيقي، الذي تُختبر في مدى

إيمانك بالوصول إليه بعد الموت، وهنا يكمن سر الاستثناءات المحيرة.

والله لو رُفع عن عينيك الحجاب ورأيتَ جزاءك الحقيقي، لاخترتَ الثبات

على هذه القواعد ألف مرة، وإن لقيتَ في دنياك ما جعلك تندم عليها مرارًا.

فثِقْ تمام الثقة بقواعدك واثبُت.

إنما الاستثناءات ابتلاءات، تختبر أصحابها وتختبرنا معهم أيضًا، ولا ينجو

منها إلا الذي يضع عينيه نَصْب الآخرة دون الالتفات لغيرها؛ حيث لا توجد

مثل هذه الاستثناءات المحيرة، إنه وعد رب العالمين:

﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60].

فليهدأ قلبك، ولتطمئن نفسك؛ فالذي يحاسبك لا ينسى مثقال ذرة من خير،

ولا تخفى عنه مثقال ذرة من شر، عليم حكيم، يؤخرنا ليوم تشخص فيه

الأبصار، تبيض فيه وجوه الذين سعَوا في الدنيا دون انتظار جزاء فيها؛

لأنهم يعلمون أن جزاءهم الحقيقي أكبر مما سيلقونه في الدنيا بكثير.

إن قواعد الحق ثابتة لن تتغير وإن اختلفت نتائجها في الدنيا، فأساس حياتنا

هي الآخرة، وهي التي نسعى من أجلها، أما الجزاء فهناك عند الكريم؛

فاصبر، ولا تغرَّنك انتصاراتهم المؤلمة، ولا تحزنك انهزامات المظلومين،

فإن الجنة تتزين لهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق