الثلاثاء، 2 أغسطس 2022

الضوابط الشرعية لموقف المسلم في الفتن (21)

 

الضوابط الشرعية لموقف المسلم في الفتن (21)


* السادس من تلك الضوابط والقواعد :

أن للقول والعمل في الفتن ضوابط ؛ فليس كل مقال يبدو لك حسناً تظهره ,
وليس كل فعل يبدو لك حسناً تفعله ؛ لأن الفتنة قولك فيها يترتَّب عليه أشياء
, ولأن الفتنة عملك فيها يترتَّب عليه أشياء .

فلا غرو أن سمعنا أبا هريرة رضي الله عنه يقول : حفظت من رسول الله
صلى الله عليه وسلم وعاءين : أما أحدهما ؛ فبثثته , وأما الآخر ؛ فلو بثثته ؛
لقطع هذا الحلقوم ! رواه البخاري في صحيحه .

قال أهل العلم : قول أبي هريرة : لقطع هذا الحلقوم ؛ يعني : أنه كتم
الأحاديث التي في الفتن , والأحاديث التي في بني أمية , ونحو ذلك من
الأحاديث وهو قال هذا الكلام في زمن معاوية رضي الله عنه , ومعاوية
اجتمع الناس عليه بعد فرقة وقتال , تعلمون ما حصل فيه , وتعلمون تاريخه
, فأبو هريرة كتم بعض الأحاديث ؛ لماذا وهي أحاديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟! ليست في الأحكام الشرعية , وإنما في أمر آخر , لماذا كتمها ؟!
لأجل أن لا يكون هناك فتنة في الناس , ولم يقل : إن قول الحديث حقِّ
, وأنه لا يجوز أن نكتم العلم ؛ لماذا ؟ لأن كتم العلم في هذا الوقت الذي تكلَّم
فيه أبو هريرة لا بدَّ منه ؛ لكي لا يتفرَّق الناس بعد أن يجتمعوا في عام
الجماعة على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه .

ويقول ابن مسعود فيما رواه مسلم في صحيحه :
ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلعه عقولهم ؛ إلا كان لبعضهم فتنة .

الناس لا يتصورون كل كلام يقوله القائل فيما يتحدث به في كل أمر في الفتن
؛ فقد يسمعون منه أشياء لا تبلغها عقولهم , فيفهمون أشياء يبنون عليها
اعتقادات , أو يبنون عليها تصرفات , أو يبنون عليها أحوالاً وأعمالاً
وأقوالاً لا تكون عاقبتها حميدة .

لهذا كان السلف يعملون بذلك كثيراً .

أنظر إلى الحسن البصري رحمه الله تعالى حيث أنكر على أنس بن مالك
رضي الله عنه حين حدث الحجاج بن يوسف بحديث قتل النبي صلى الله عليه وسلم للعًرَنيين ؛
قال لأنس وأنكر عليه : لم تحدث الحجاج بهذا الحديث ؟! قال له لأن الحجاج
عاث في الدماء , وسيأخذ هذا الحديث يتأول به صنيعه , فكان واجباً أن يُكتم
هذا الحديث وهذا العلم عن الحجاج ؛ لكي لا يكون في فهمه وعقله – الذي
ليس على السواء وليس على الصحة – أن هذا الحديث يؤيده , أو أن هذا
الحديث دليل معه , فيفهمه على غير فهمه .

فالحسن رحمه الله أنكر على أنس رضي الله عنه –وهو الصحابي – تحديثه ,
وندم أنس رضي الله عنه بعد ذلك على تحديثه الحجاج بحديث العُرَنيين .

وحذيفة – قبل أبي هريرة – كتم أحاديث من أحاديث الفتن ,
لأنه رأى أن الناس لا يحتاجونها .

والإمام أحمد كره أيضا التحدث بالأحاديث التي فيها الخروج على السلطان ,
وأمر أن تشطَب من مسنده ؛ لأنه قال : لا خير في الفتنة ,
ولا خير في الخروج .

وأبو يوسف كره التحدث بأحاديث الغرائب.
ومالك رحمه الله كره التحديث بأحاديث فيها ذكر لبعض الصفات .

المقصود من هذا : أنه في الفتن ليس كل ما يعلم يُقال ,
ولا كل ما يُقال يُقال في كل الأحوال.

لا بدَّ من ضبط الأقوال ؛ لأنك لا تدري ما الذي سيحدثه قولك ؟
وما الذي سيحدثه رأيك ؟ وما الذي سيحدثه فهمك؟

والسلف رحمهم الله أحبو السلامة في الفتن , فسكتوا عن أشياء كثيرة ؛
طلباً للسلامة في دينهم , وأن يلقوا الله جلَّ وعلا سالمين .

وقد ثبت أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال لابنه حين حدَّث في القيام
ببعض الأمر في الفتنة ؛ قال لابنه : يا هذا ! أتريد أن تكون رأساً في الفتنة !
لا , لا والله .

فنهى سعد بن أبي وقاص ابنه عن أن يكون سعد أو أن يكون أبنه رأساً
في الفتنة , ولو بمقال أو بفعال , ولو رآها حسنة صائبة ؛ فإنه
لا يأمن أن تكون عاقبتها غير حميدة .

والناس لا بدَّ أن يزنوا الأمور بميزان شرعي صحيح , حتى يَسْلَموا,
وحتى لا يقعوا بالخطأ .

ثم إن للأعمال وللأفعال وللتصرفات ضوابط لا بدَّ من رعايتها ؛ فليس كل فعل
يُحمد في حال يُحمد في الفتنة إذا كان سيفهم منه غير الفهم الذي يُراد
أن يُفهم منه .

فالنبي صلى الله عليه وسلم – كما روى البخاري في الصحيح – قال لعائشة : لولا حدثان قومك
بالكفر ؛ لهدمت الكعبة , ولبنيتها على قواعد إبراهيم , ولجعلت لها بابين .

النبي صلى الله عليه وسلم خشي أن يفهم كفار قريش الذين أسلموا حديثاً من نقضه الكعبة , ومن بنائه إياها على بناء إبراهيم , ومن جعله لها بابين : باب يدخل منه
الناس , وباب يخرجون منه ؛ خشي أن يفهم منه الناس فهماً غير صائب ,
وأن يفهموا أنه يريد الفخر , أو أنه يريد تسفيه دينهم – دين إبراهيم -
أو نحو ذلك ؛ فترك هذا الفعل.

ولهذا ؛ بوَّب البخاري – رحمه الله – باباً عظيماً استدلَّ عليه بهذا الحديث ؛
ماذا قال ؟ قال : باب : من ترك الاختيار مخافة أن يقصر الناس عن فهمه
فيقعوا في أشد منه .
وذكر البخاري تحت هذا الباب هذا الحديث النبوي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق