الأحد، 18 أغسطس 2013

الأدب مع المخالف

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد :
فيجب على الداعية المنصف أن يتأدب مع المخالفين ،
وأن يتسع صدره لانتقاداتهم ، والتي قد لا تكون منصفة بدورها ،
فهم وإن عصوا الله – تعالى - فيه فلا يبرر ذلك أن نبادلهم معصية بأخرى  .
 
وقد بلغ الإنصاف بالإمام ابن تيمية - رحمه الله -
أن اتسع صدره لمن كفّره وبدّعه وفسّقه ، فيقول في كلام بديع :
 
[ وَأَنَا فِي سعَةِ صَدْرٍ لِمَنْ يُخَالِفُنِي ، فَإِنَّهُ وَإِنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فِيَّ بِتَكْفِيرِ،
أَوْ تَفْسِيقٍ ، أَوْ افْتِرَاءٍ ، أَوْ عَصَبِيَّةٍ جَاهِلِيَّةٍ ؛ فَأَنَا لا أَتَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فِيهِن ،
بَلْ أَضْبُطُ مَا أَقُولُهُ وَأَفْعَلُهُ ، وَأَزِنُهُ بِمِيزَانِ الْعَدْلِ ،
وَأَجْعَلُهُ مُؤْتَمًّا بِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ
وَجَعَلَهُ هُدًى لِلنَّاسِ حَاكِمًا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ]
 
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
 
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ }
[ البقرة : 213 ]
 
وَقَالَ تَعَالَى :
 
{ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ }
[ النساء : 59 ]
 
وَقَالَ تَعَالَى :
 
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ
وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ }
[ الحديد : 25 ]
 
وَذَلِكَ أَنَّك مَا جَزَيْت مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيك بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ :
 
{ إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ }
[ النحل : 128 ]
 
ومن الأدب مع المخالفين :
أن يتورع المسلم عن لمزه أو الإساءة إليه بأي صورة مِن الصور ،
ولا سيما إن كان ذلك يجره إلى التقول عليه بغير علم ،
أو رميه بما ليس فيه ،
فإن صفة المؤمنين هي أن ينزهوا أنفسهم عن الصيد في الماء العكر ،
واستغلال الفرص للإساءة للمخالفين .
 
ويأتينا الدرس هنا مِن النساء
وقد اعتدنا في دنيا النساء على التخليط وترديد الإشاعات ،
والنيل مِن المخالفات عن طريق الغيبة ، والوقوع في الأعراض ،
لكن هذا المثل السامق يكشف لنا عن طيب معدن المرأة المسلمة
في موقف زينب بنت جحش - رضي الله عنها -
مِن محنة أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -
الطاهرة المبرأة لما قيل في حقها ما هي بريئة منه ، وكانت محنة للجميع ،
فها هي ذي عائشة الطيبة الطاهرة تُرمى في أعز ما تعتز به ،
ترمى في شرفها ، وهي ابنة الصديق الناشئة في العش الطاهر الرفيع ،
وترمى في وفائها ، وهي الحبيبة المدللة القريبة مِن ذلك القلب الكبير ،
ثم ترمى في إيمانها ، وهي المسلمة الناشئة في حجر الإسلام ،
من أول يوم تفتحت عيناها فيه على الحياة ،
وهي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم .
 
ها هي ذي ترمى ، وهي بريئة غافلة ، لا تحتاط لشيء ،
ولا تتوقع شيئًا ؛ فلا تجد ما يبرئها إلا أن ترجو في جناب الله ،
وتترقب أن يرى رسول الله رؤيا تبرئها مما رميت به ، ولكن الوحي يتلبث ـ
لحكمة يريدها الله ـ شهرًا كاملاً ، وهي في مثل هذا العذاب .
ولقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها قبل نزول القرآن ببراءتها ،
فكان ممن سألهم : زوجه السيدة زينب بنت جحش - رضي الله عنها ،
فماذا كان ردها ؟.
 
قَالَتْ عَائِشَةُ - رضي الله عنها :
 
( وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ َسْأَلُ زَيْنَبَ بْنَت جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي ,
فَقَالَ لزَيْنَبُ : مَاذَا عَلِمْتِ , أَوْ رَأَيْتِ ؟.
فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي , وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلا خَيْرًا.
قَالَتْ عَائِشَة ُ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي
مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ )
[ متفق عليه ]
 
وهكذا المؤمنون في غيرتهم أو خلافاتهم قوم أطهار يطلبون المعاذير ،
ويبعدون عن أنفسهم قول السوء وظن السوء ،
ويدركون حجم الأذى الذي قد تمثله كلمة في غير موضعها ،
ولذا قيل : إن المؤمن لسانه من وراء قلبه ، إن تكلم بكلمة مرت على قلبه ،
فإن أنكرها ؛ تورع عنها ، وإن أقرها ؛ تكلم بها ،
والمنافق عكس ذلك يسعى بالسوء ويحب الإساءة .
 
وهذا ما وصفه الله – تعالى -
متوعدًا أولئك الذين يرمون الناس بما ليس فيهم فقال :
 
{ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا }
[ النساء : 112 ]
 
وهذا ما قاله – أيضًا - الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم
فيما ما صح في الحديث :
 
( آيَةَ الْمُنافِق ثَلاثٌ : إِذا حَدَّثَ كَذَب ، وَإِذا وَعَد أَخْلَفَ ، وَإِذا اؤْتُمِنَ خَانَ )
[ متفق عليه ]
 
وفي الحديث الآخر :
 
( أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ,
وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ , حَتَّى يَدَعَهَا :
إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ )
[ متفق عليه ]
 
فهو فاجر في خصومته يرمي الآخرين بما ليس فيهم .
 
ومن الأدب مع من يخالفك : عدم الإلزام بما لم يلتزمه المخالف ،
فمن الإنصاف : عدم تقويل الشخص ما لم يقله ، أو إلزامه بما لم يلتزم به ،
وعدم تحميله ما لم يتحمله ، وإزالة اللبس عن كلامه ،
وحمل كلامه على ما يريد ،
ولو استطاع أن يحمله على أحسن المحامل فذاك حسن .
 
ونبراسنا في هذا :
 
ما جاء في الحديث عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رضي الله عنه – قَالَ :
 
( بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَرِيَّةٍ ،
فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلاً ،  
 فَقَالَ : لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ، فَطَعَنْتُهُ .
فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِك َ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَقَالَ : لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ ؟
قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنْ السِّلاحِ .
قَال َ: أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لا ؟ ،
فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ )
[ متفق عليه ]
 
فمن الإنصاف : أن لا نسيء الظن بغير بينة واضحة ،
بل يجب أن نكف في حال اللبس حتى تكون الصورة واضحة جلية ،
 
( روي أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم- عن الشهادة، 
  فقال له :هل ترى الشمس ؟ .  
 قال : نعم .  
 قال : على مثلها فاشهد أو دع )
[ رواه الحاكم والبيهقي ، وضعفه الحافظ ابن حجر وغيره ،
وقال ابن حزم - رحمه الله : لا يصح سنده ، لكن معناه صحيح ]
 
يقول ابن القيم - رحمه الله :
 
[ وكل أهل نحلة ومقالة يكسون نحلتهم
ومقالتهم أحسن ما يقدرون عليه مِن الألفاظ ،
ومقالة مخالفيهم أقبح ما يقدرون عليه مِن الألفاظ ، ومَن رزقه الله بصيرة ،
فهو يكشف به حقيقة ما تحت تلك الألفاظ من الحق والباطل،
ولا تغتر باللفظ ]
 
كما قيل في هذا المعنى :
 
تـقـول هــذا جنى النـحل تمـدحـه      وإن شـئت قلت ذا قيء الزنابـيـر
مدحًا وذمًا وما جاوزت وصفهما      والحـق قـد يعـتـريه سوء تعـبيـر
 
فإذا أردتَ الاطلاع على كنه المعنى : هل هو حق أو باطل ؟
فجرده من لباس العبارة ، وجرد قلبك عن النفرة والميل ، ثم أعط النظر حقه،
ناظرًا بعين الإنصاف ، ولا تكن ممن ينظر في مقالة أصحابه
ومَن يحسن ظنه به نظرًا تامًا بكل قلبه ،
ثم ينظر في مقالة خصومه ومَن يسيء ظنه به كنظر الشزر والملاحظة ؛
فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ ، والناظر بعين المحبة عكسه ،
وما سلم مِن هذا إلا مَن أراد الله كرامته ، وارتضاه لقبول الحق ،
 
وقد قيل :
 
وعـيـن الرضا عـن كل عيب كـليلة      كما أن عين السخط تبدي المساويا
 
وقال آخر :
 
نظروا بعين عداوة لو أنها       عين الرضا لاستحسنوا ما استقبحوا
 
ولهذا جاء في دعائه - صلى الله عليه وسلم :
 
( اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ ،
وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ , وحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا ، ولِسَانًا صَادِقًا ،
وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ ،
وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ )
[ رواه أحمد والنسائي وابن حبان ، وصححه الألباني ]
 
ومن الأدب مع المخالف :
الإنصاف في نقل الشبهات عن أهلها والرد عليها ،
ونقصد بذلك أن المسلم إن احتاج أن ينقل شبهة قد انتشرت واستشرت
فلينقلها دون أن يُغفل بعض مواطنها ؛ ليكون منصفًا ،
فإنه لا بد أن ينقلها بأمانة .
وليعلم بأن على الحق نورًا ، وأن عليه أن يبحث عن الحق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق