السبت، 31 يوليو 2021

موسوعة المؤرخين (93)

 
الفتح بن خاقان .. أديب مؤرخي الأندلس (05)

بين الفتح بن خاقان وابن باجه الفيلسوف:

يروي ياقوت الحموي أن الفتح بن خاقان لما عزم على تصنيف كتابه

"قلائد العقيان" جعل يرسل إلى كل واحد من ملوك أهل الأندلس

ووزرائها وأعيانها من أهل الأدب والشعر والبلاغة، يعرفه عزمه، ويسأله

إنفاذ شيء من شعره ونثره ليذكر في كتابه. وكانوا يعرفون شرّه، فكانوا

يخافونه وينفذون إليه ذلك مع صرر الدنانير، فكل من أرضته صِلته،

أحسن في كتابه وصفه وصفته، وكل من تغافل عن برِّه هجاه.



وكان ممن أرسل إليهم أبو بكر ابن باجة المعروف بابن الصائغ

وهو آخر فلاسفة الإسلام بجزيرة الأندلس، وكان وزير ابن تيفَلْويِتَ

صاحب المريّة، وكان ابن الصائغ هذا أحد الأعيان، وأركان العلم والبيان،

شديد العناية بعلم الأوائل، وكانوا يشبّهونه في المغرب بابن سينا

في المشرق، وله كتب في المنطق وغيره.



فلما وصلته رسالة ابن خاقان، لم يلتفت إليها ولم يعرها اهتمامه،

ولم يرسل إليه ما طلب، ويبدو أن هذا أغضب ابن خاقان، فجعله

في خاتمة كتابه، ووصفه وصفًا سيئًا بل ذمّه ذمًّا قبيحًا، وعرَّض

باشتغلاله بالفلسفة، فمن جملة ما قاله: "أبو بكر ابن الصائغ: هو رمد

جفن الدين، وكمد نفوس المهتدين ..، ورفض كتاب الله العليّ العظيم،

ونبذه وراء ظهره ثاني عطفه، وأراد إبطال ما لا يأتيه الباطل من بين يديه

ولا من خلفه، واقتصر على الهيئة، وأنكر أن يكون إلى الله الفيئة"،

ويبدو أنه لم يستطع إنكار فضله كل الإنكار فقال في ختام ترجمته:

"وله نظم أجاد فيه بعض الإجادة، وشارف الإحسان أو كاده".



بينما ذكر ابن الخطيب أن سبب حقده على ابن باجة، ما كان من إزرائه

به وتكذيبه إيّاه في مجلس إقرائه، إذ جعل يكثر ذكر ما وصله به أمراء

الأندلس، ووصف حليًّا، وكانت تبدو من أنفه فضلة خضراء اللون، فقال

له ابن باجة: "فمن تلك الجواهر إذن الزمردة التي على شاربك"،

فثلبه في كتابه.



ولما بلغ ذلك ابن الصائغ، رأى أن يسترضيه، فأرسل إليه مالًا، وطلب

منه أن يكف عن هجائه وأن يصالحه. وقد أرضى هذا ابن خاقان فيما

يبدو، فلما كتب كتابه "مطمح الأنفس ومسرح التأنس" افتتحه بذكر

ابن الصائغ، وأثنى عليه ثناء جميلًا ومدحه قائلًا: "الوزير أبو بكر بن

الصائغ هو بَدْرُ فهمٍ ساطعٌ، وبرهان علم لكل حجّةٍ قاطعٌ، تفوّحت بعطره

الأعصار، وتطيّبت بذكره الأمصار ..، مع نزاهة النفس وصونها،

وبعد الفساد من كونها".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق