الخميس، 24 فبراير 2022

إنذار

 

إنذار


تُروعُنــا الجنـائزُ مقبـــلات *** ونلهــو حين تذهـب مدبـــرات

كروعــة ثلةٍ لمغـار ذئـــبٍ *** فلمــا غاب عـادت رائعـــات

-----

عشت مرحلتي الدراسية الأولى مع والدي..

في بيئة صالحة اسمع دعاء أمي وأنا عائد من سهري آخر الليل..

أسمع صوت أبي في صلاته الطويلة.. طالما كنت أقف متعجباً من طولها..

خاصةّ عندما يحلو النوم أيام الشتاء البارد..

أتعجب في نفسي وأقول.. ما أصبره.. كل يوم هكذا.. شيء عجيب.

لم أكن أعرف أن هذه هي راحة المؤمن وأن هذه هي صلاة الأخيار..

يهبُون من فرشهم لمناجاة الله..

بعد المرحلة التي قطعتها في دراستي العسكرية.. ها قد كبرت وكبر

معي بعدي عن الله..

على الرغم من النصائح التي أسمعها وتطرقُ مسامعي بين الحين والآخر..

عُينت بعد تخرجي في مدينة غير مدينتي وتبعد عنها مسافة بعيدة..

ولكن معرفتي الأولى بزملائي في العمل خففت ألم الغربة على نفسي..

انقطع عن مسامعي صوت القرآن.. انقطع صوت أمي التي توقظني للصلاة

وتحثني عليها.. أصبحت أعيش وحيداً.. بعيداً عن الجو الأسري

الذي عشته من قبل..

تم توجيهي للعمل في مراقبة الطرق السريعة.. وأطراف المدينة للمحافظة

على الأمن ومراقبة الطرق ومساعدة المحتاجين.. كان عملي متجدداً وعشت

مرتاحاً.. أؤدي عملي بجد وإخلاص.. ولكني عشت مرحلة متلاطمة الأمواج..

تتقاذفني الحيرة في كل اتجاه.. كثرة فراغي.. وقلة معارفي.. وبدأت أشعر

بالملل.. لم أجد من يعينني على ديني.. بل العكس هو الصحيح..

من المشاهد المتكررة في حياتي العملية الحوادث والمصابين..

ولكن كان يوماً مميزاً..


في أثناء عملنا توقفت أنا وزميلي على جانب الطريق..

نتجاذب أطراف الحديث.

فجأةً سمعنا صوت ارتطام قوي..

أدرنا أبصارنا.. فإذا بها سيارة مرتطمة بسيارة أخرى كانت قادمة

من الاتجاه المقابل.. هبينا مسرعين لمكان الحادث لإنقاذ المصابين..

حادث لا يكاد يوصف..شخصان في السيارة في حالة خطيرة..

أخرجناهما من السيارة.. ووضعناهما ممدين..

أسرعنا لإخراج صاحب السيارة الثانية.. الذي وجدناه فارق الحياة..

عدنا للشخصين فإذا هما في حال الاحتضار..

هب زميلي يلقنهما الشهادة..

قولوا: لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله..

لكن ألسنتهما ارتفعت بالغناء.. أرهبني بالموقف..

وكان زميلي على عكسي يعرف أحوال الموت.. أخذ يعيد عليهما الشهادة..

وقفت منصتاً.. لم أحرك ساكناً شاخص العينين أنظر.. لم أر في حياتي موقفاً

كهذا.. بل قل لم أر الموت من قبل وبهذه الصورة.. أخذ زميلي يردد عليهما

كلمة الشهادة.. وهما مستمران في الغناء..

لا فائدة..

بدأ صوت الغناء يخفت.. شيئاً فشيئاً.. سكت الأول وتبعه الثاني..

لا حراك..فارقا الدنيا..

حملناهما إلى السيارة. وزميلي مطرق لا ينبس ببنت شفه..

سرنا مسافة قطعها الصمت المطبق..

قطع هذا الصمت صوت زميلي فذكر لي حال الموت وسوء الخاتمة..

وإن الإنسان يختم له إما بخير أو شر.. وهذا الختام دلالة لما كان يعمله

الإنسان في الدنيا غالباً.. وذكر لي القصص الكثيرة التي رويت في الكتب

الإسلامية.. وكيف يختم للمرء على ما كان عليه بحسب ظاهره وباطنه..

قطعنا الطريق إلى المستشفى في الحديث عن الموت والأموات..

وتكتمل الصورة عندما أتذكر أننا نحمل أمواتاً بجوارنا..


خفت من الموت واتعظت من الحادثة.. وصليت ذلك اليوم

صلاة خاشعة..ولكن نسيت هذا الموقف بالتدريج..

بدأت أعود إلى ما كنت عليه.. وكأني لم أشاهد الرجلين وما كان مهما..

ولكن للحقيقة أصبحت لا أحب الأغاني.. ولا أتلهف عليها كسابق عهدي..

ولعل ذلك مرتبط بسماعي لغناء الرجلين حال احتضارهما..

· من عجائب الأيام..

بعد مدة تزيد على ستة أشهر.. حصل حادث عجيب.. شخص يسر بسيارته

سيراً عادياً.. وتعطلت سيارته.. في أحد الأنفاق المؤدية إلى المدينة..

ترجل من سيارته.. لإصلاح العطل في أحد العجلات.. عندما وقف

خلف سيارته.. لكي ينزل العجلة السليمة..

جاءت سيارة مسرعة.. وارتطمت به من الخلف..

سقط مصاباً إصابات بالغة..

حضرت أنا وزميل آخر غير الأول.. وحملناه معنا في السيارة

وقمنا بالاتصال بالمستشفى لاستقباله..

شاب في مقتبل العمر.. متدين يبدو ذلك من مظهره.. عندما حملناه

سمعناه يهمهم.. ولعجلتنا في سرعة حمله لم نميز ما يقول.

ولكن عندما وضعناه في السيارة وسرنا..

سمعنا صوتاً مميزاً..

إنه يقرأ القرآن.. وبصوت ندي.. سبحان الله لا تقول هذا مصاب..

الدم قد غطى ثيابه.. وتكسرت عظامه.. بل هو على ما يبدو

على مشارف الموت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق