السبت، 12 مارس 2016

التقصير في الشكر وعلاجه

    أخبر الله في محكم كتابه أن الخلق عاجزون عن إحصاء نعم الله
 تعالى عليهم، فقال:
 
 { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا }
[ النحل:18]
 
    وهذا يعني أنهم لن يقوموا بشكر نعم الله تعالى على الوجه المطلوب.
لأن من لا يحصي نعمة الله عليه كيف يقوم بشكرها. ولعل العبد لا يكون
مقصراً إذا بذل قصارى جهده في الشك بتحقيق العبودية لله رب العالمين
على حد قوله تعالى:
 
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }
[ التغابن: 16].
 
    إنما التقصير الذي نعنيه، أن يتقلب الإنسان في نعم الله تعالى ليلاً
ونهاراً، ظاعناً ومقيماً نائماً ويقظانَ، ثم يصدر من أقواله وأفعاله
أو اعتقاداته مالا يجامع الشكر بحال من الأحوال، فهذا التقصير الاختياري
هو الذي نريد أن نعرف شيئاً عن أسبابه. ثم نأتي بعد ذلك بما فتح الله
به من علاج. فمن هذه الأسباب:
 
    السبب الأول: الغفلة عن النعمة:
    إن كثيراً من الناس يعيش في نعم عظيمة - عامة وخاصة - لكنه غافل
عنها، لا يدري أنه يعيش في نعمة، ذلك لأنه ألفها ونشأ فيها. ولم يمرَّ
عليه في حياته ضد لها، فهو يظن أن الأمر هكذا. والإنسان إذا لم يعرف
النعمة ويشعر بها كيف يقوم بشكرها، قال بعض السلف: ( النعمة من الله
على عبده مجهولة، فإذا فُقدت عُرفت ).
 
    إن كثيراً من الناس في زماننا هذا يتقلبون في نعم الله تعالى، يملأون
بطونهم بالطعام والشراب، ويلبسون أحسن اللباس، ويتدثرون بأنعم
الغطاء، ويركبون أحسن المراكب، ثم يمضون لشأنهم، لا يتذكرون نعمة،
ولا يعرفون لله حقاًّ!
 
    والنعم إذا كثرت بتوالي الخيرات وتنوعها غفل الإنسان عن الخالين
منها، وظن أن غيره كذلك، فلم يصدر منه شكر للمنعم. ولهذا أمر
 الله تعالى عباده بأن يذكروا نعمه عليهم:
 
{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ
 وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ }
[ البقرة:231].
 
    السبب الثاني: الجهل بحقيقة النعمة:
    من الناس من يجهل النعمة، لا يعرف حقيقتها ولا يدرك كنهها،
ولا يدري أنه في نعمة، لأنه لا يدري حقيقة النعم، بل قد يرى بعض إنعام
الله عليه قليلاً لا يستحق أن يطلق عليه نعمة، ومن لم يعرف النعمة
بل كان جاهلاً بها لم يشكرها.
 
    إن من الناس من إذا رأى النعمة مبذولة له ولغيره لم ير أنه مختص
بها، فلا يشكر الله، لأنه لا يرى أنه في نعمة ما دام غيره في هذه النعمة،
فأعرض كثير عن شكر نعم الله العظيمة في النفس من الجوارح
والحواس، وعن نعم الله العظيمة في هذا الكون.
 
    خذ - مثلاً - نعمة البصر، فهي من نعم الله العظيمة التي يغفل عنها
الناس فمن الذي يدرك هذه النعمة ويرعى حقها ويقوم بشكرها؟
إنهم قليلون.
 
    لو عمي إنسان فرد الله عليه بصره بسبب قدَّره الله. هل ينظر إلى
بصره في الحالة الثانية كغفلته في الحالة الأولى؟!، لا، لأنه أدرك قيمة
هذه النعمة بعد فقدها. فهذا قد يشكر الله على نعمة البصر، ولكنه سرعان
ما ينسى ذلك، وهذا غاية الجهل إذ صار شكره موقوفاً على سلب النعمة
ثم ردِّها مع أن الدائم أحق بالشكر من المنقطع أحياناً.
 
    السبب الثالث: نظر بعض الناس إلى من فوقه:
    إذا نظر الإنسان إلى من فوقه ممن فُضِّل عليه احتقر ما أعطاه الله
تعالى من فضله، فقصر في وظيفة الشكر؛ لأنه يرى أن ما أعطيه قليل،
فيطلب الازدياد ليلحق بمن فوقه أو يقاربه. وهذا موجود في غالب الناس.
فينشغل قلبه ويتعب جوارحه في طلب اللحاق بمن فضلوا عليه في متاع
الحياة الدنيا. فيصير همه جمع الدنيا ويغفل عن الشكر والقيام
بوظيفة العبودية التي خلق لأجلها.
 
    السبب الرابع: نسيان الماضي:
    من الناس من مرت به حياة البؤس والعوز، وعاش أيام الخوف
والقلق، إما في مال أو معيشة أومسكن. ولما أنعم الله عليه وآتاه من
فضله لم يشأ أن يعمل مقارنة بين ماضيه وحاضره ليتبين له فضل ربه
عليه، لعل ذلك يكون عوناً له على شكر النعم، لكنه غرق في نعم الله
الحاضرة ونسي حالته الماضية!
 
    علاج التقصير في الشُّكر:
    لعلنا إذا عرفنا شيئاً من أسباب التقصير في الشكر أن نشير هنا إلى
 نبذة مما نراه علاجاً للتقصير في الشكر. ولا سيما الشكر العملي
 شكر الجوارح. ومن ذلك ما يلي:
 
    1- التأمُّل في نعم الله تعالى واستحضارها وتذكرها. وأن الإنسان في
كل حالة من أحواله في نعمة، بل ولا يمكن أن يمر عليه لحظة في حياته
إلا وهو يتقلب في نعم الله تعالى، وفي هذا استجابة لأمر الله تعالى
 بقوله سبحانه:
 
{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ }
[ البقرة:231]
 
وقال تعالى:
 
 { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ
يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }
 [ فاطر: 3]
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
 
    2- الضَّراعة إلى الله تعالى بأن يوزع عبده الضَّعيف شكر نعمته،
والإعانة على القيام بهذه الوظيفة العظيمة التي لا قيام للعبد بها إلا بإعانة
الله تعالى، والضراعة صفة أنبياء الله تعالى ورسله وعباده الصالحين.
قال تعالى عن سليمان عليه الصلاة والسلام:
 
{ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ
 وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ }
[ النمل:19].
 
    وقال تعالى عن العبد الصالح:
 
{ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا
وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً
قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ
وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ
وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }
[ الأحقاف:15].
 
    وقد أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم
- معاذ بن جبل - رضي الله عنه - بهذا الدعاء العظيم فقال له
 وقد أخذ بيده:
 
( يا معاذ، والله إني لأحبك، ثم أوصيك يا معاذ لا تدعن دبر كل
صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ).
 
    3- أن يعلم الإنسان أن الله تعالى يسأله يوم القيامة عن شكر نعمه.
 هل قام بذلك أو قصّر، قال تعالى:
 
{ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ }
[ التكاثر: 8 ]
 
    قال ابن كثير - رحمه الله -:
 ( أي: ثم لتسألن يومئذٍ عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة
والأمن والرزق وغير ذلك ماذا قابلتم به نعمه من شكر وعبادة ).
 
    4- أن يعلم الإنسان يقيناً أن النعم إذا شكرت قرت وزادت، وإذا كفرت
فرَّت وزالت، قال تعالى:
 
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ
وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }
[ إبراهيم:7]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق