الجمعة، 6 نوفمبر 2020

ثم جِئت على قدرٍ يا موسى

 ثم جِئت على قدرٍ يا موسى


{ ثُمَّ جِئْتَ على قَدرٍ يا مُوسَى } ..

القَدر .. التَّوقيت .. الحِّكمة ..

هي أبجَديّات العِراك العَقلي طُوال تاريخ البشريّة !

لِماذا .. ومَتى .. وكَيف .. أسئِلة تَعثَّر بها الإنسانُ في محاولاتِه للفَهم ..

في مُحاولاته لإدراكِ سرّ ما يَجري !



مَن يكتُب تواريخَنا .. من يخُطّ ذَهابنا وإيابنا ..

و ما مَوقع الّلوح المَحفوظ في أفعالِنا ..!



هُنا .. يهَبك القرآن آية تفيضُ بالإجابات { ثمّ جئت على قَدر } ..

كأنَّ القَدر هو سفينةَ موسى التي يتَهادى عليها ..!



كأنّ القدَر ؛ طريق خَبيء .. راسياً في عُمقه تحتَ قَدميك ..

صامتاً لا تُبصره ولكنّه يُبصِرك ..!

و كل ّقدوم منك هوَ صعود إليه !



يعومُ موُسى في اضطراب المياه .. و منذ لحظة الميلاد ؛ تأتيهِ موجة مُسَخّرة

.. ثُمَّ محبّة خفيّة .. ثمَّ انكسارة جبريّة لفِرعون .. ثمّ مَدين ؛ في انسيابيّة

قدريّة ، تُمَهد لموسى مَشهد العبور و مشهد الخُروج ،

و مشاهِد التَّكليم الجَليلة !



ما القَدر وما التَّوقيت ؟!

انْظُر إلينا ؛ ونحنُ نبحثُ في الأفقِ عن صدى دعائِنا ..

عن السّفينة التي نبنيها كل سّحر ..

فلا نلمحُ كلّ غروب ؛ الا اليابسة تمتدّ .. وتَنفي لنا البَحر !

تّتسع الصَّحراء .. فيتّسع اليأسُ معها ، و يظنُّ العبد { بالله الظُّنونا } !

تظلّ المَطارق وحيدةً كلّ مَساء .. تودّ لو أن الّليل يُصبح قَطرة من ماءٍ ؛

كيْ تبدو السّفينة مَعقولة !



لو انّ مَوجة تأتِي ؛ فتَرفع انحناءتَك المَريرة .. ولا تُبق السّفينة في الجَفاف !

لا نسمعُ صوت التّنور ، و لا صوت أبواب السّماء مفتوحة { بماءٍ مُنهَمر } ..

لا نَلمح الا حِيرتنا !



نرتَجف .. ربّما خشية سُقوط أردِيتنا !

أو اهتزاز بقيّة إيماننا ..

نتأَرجح .. بين اليَقين وبين الإنتظار !

نكادُ نشتعل بنارِ الشّك المدفونة في عُمقنا !

ونودّ لو نبني برجاً ؛ فنطّلع فيه على الغَيب !



ما أبسَط الإنسان !

ينامُ على ضِفاف النَّحيب .. ولو أصْغَى ؛ لَسَمِع هدير الطُّوفان !

وَ قدْ قيلَ ( والغَيث يَحْصرُه الرّدى فَما يرى ) وإنّه لَفي السُّحُبِ ..

ولكنّ ثِقَلها بِحملِها ؛ جعلَ سَيرَها بطيئًا !

فلا تتَعجَّل ..!



و انتَبه .. للحِكمَة إذا صَمتَ الطّوفانُ .. واستقَرَّت سَفينتُك على الجُودي !

انتبه .. أنّ الحكمةَ الإلهيةَ تَتجلى في الأقْدَار .. وللأقدارِ مِيعادٌ !

إذ حاشَا لله ؛ أنْ يَفتحَ عليكَ السّماءَ .. وأنتَ لا تَملكُ إلا خَشبةً تَطفو عليها ..

فتُكابدُ المَوتَ ولا تَموت !



{ ثمَّ جِئتَ على قَدَر } .. هيَ الرّسالةُ لنا جميعًا ؛

" أنّ في تَصاريفِ الأَقدارِ استرَاحةَ صَهيلِ الأفكارِ " !



دوْمًا .. قبلَ الانتِهاءِ ، وبعدَ الابتِداءِ ، و ما بينَهُما ؛ تَتراءى الأحْداثُ لكَ ..

مثلَ ضَجيجٍ غامِضٍ .. تَودُّ لو أنَّك تَفهمُ التَّوقيت !



تَرتابُ في دقّاتِ سَاعةِ الكَونِ .. وتَظنُّ أنكَ صِرتَ نَسيًا مَنْسِيًّا !

لكنّ اللهَ لا يَعجلُ لِعَجَلتِنا ؛ لأن الفعلَ الكونِيَ أوسعُ من دَبيبِ

خَطَوتِنا المزروعَةِ في القَلَق !



دَومًا .. تَبدو لنا المَواقدُ بلا لَهيب .. ونَبتةُ الصَّبارِ في الصّحراء ؛

تَبدو أشواكُها ساكِنةً ..



لكنّ ظَمَأَ الرّمالِ يَختبيءُ فيها .. ويكادُ يُعلنُ ؛ أنّ مواعيدَ الجَفافِ قد انْتَهت !

ثِقْ بِرَبِّك .. أن ثَمَّةَ الكَثيرَ منَ الينَابيع في الصَّمت الواسِعِ تَنتظرُ قَدرَ انفجارِها

.. ولَحظةَ { فالتَقى الماءَ على أمْرٍ قَد قُدّر } !



فلا تَتعَجّل .. ورَتِّل على نَفسِك تَرتيلًا { ثمَّ جِئتَ على قَدَرٍ يا مُوسَى } !

لكنّ ذلكَ كُلَّه ؛ لا يَكونُ إلا لأصْحابِ المَعيَّةِ الخاصّة ..

والمَعيَّةُ الخاصَّة مِنَ الله ؛ هي مُصاحبة مُوالاةٍ ونُصرَة !

والمَعيَّةُ العامَّة ؛ هي مُصاحبة اطّلاعٍ وإحاطَة !

وانظُر .. كمْ هوَ الفَارِق بينَ الصُّحبَتين !



الثانيةُ .. بَلغَت بِموسَى - عليه السلام - مقامَ

{ كَلا إنَّ مَعَي ربِّي .. سَيَهدِين } ؛ فَفلَقَت له البَحرَ طريقًا يَبسًا ..

إذ كانَ { مُخلِصًا } !



هي إذن .. مَنظومةٌ عَاليةٌ من الأحْداثِ ؛ تُشكِّلُ موسى - عليه السلام –

كَي يَبلغَ مُقامَ { ولتَصنَع عَلى عَيني } !



تَشتدُّ الأحداثُ ؛ كي تُسلّمَه إلى المقام المَخصوص { واصطَنعتُكَ لِنفسي } !



وذلكَ كُلّه ؛ كي تُصبحَ كلُّ خَطَواتِه مَوسومةً مُعنونَةً بقوله

{ و جِئتَ عَلى قَدَرٍ يا موسَى } !



ما أيسرَ الثّمن إذن { فَلبثَت سِنينَ في أهْلِ مَديَن } ..

حينَ يكونُ المآلُ ؛ { وكَلَّمَ اللهُ موسَى تَكليمًا } !



و لقد قيلَ : دلائلُ الإعدادِ يُشَمُّ مِنها روائِحُ الاصطِفاء !



فانأَى بنفسكَ عن الاختيارِ والتَدبيرِ ؛ وقُل نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة دَبِّر لِي فإنّي لا أُحسنُ التَدْبير ) !

وقد قالَها ابنُ القيّم نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة أشرَفُ الأحْوال ؛ِ أنْ لا تَختارَ لنفسكَ حالةً سِوى

ما يختارَهُ لكَ اللهُ ، ويُقيمك فيه .. فَكُن معَ مُرادِه منك ؛

ولا تكنْ معَ مُرادِك منه ) !



ثم نَبَّه ابنُ القيّم قائلًا نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة و مَن تَأمّلَ أقدارَ الرَّبِ تعالى وجريانَها في الخَلق ؛

عَلِمَ أنها واقعةٌ في أليقِ الأوقاتِ بها )..

وظلّ تسبيحُه من بعد في فلك ( أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ ) ..

وذاقَ معنى ( وَهوَ اللّطيفُ بِعبْدِه ولِعَبده ) !



يا أيها العَبدُ .. ( إنّ سَوابقَ الهِمَمِ ؛ لا تَخرقُ أسوارَ الأقدَار) ..!

إذ أسوارُ الأقدارِ ؛ منوطٌ بها حِمايةُ دعواتِك و أُمنياتِك !

تأَمَّل سُؤلكَ .. فقد كان ذاتَ يومٍ ؛ بذرةً لم تنضجْ في حُضنِ الشّمسِ ..

سَيَّجَها اللهُ لك بالمَنعِ من البُروز !



و أحاطَها بسورٍ { باطِنهُ فيه الرّحمة } ؛ فكان مَنعُه لك عطاءً ..

ولولا أسْوار الأقدارِ ؛ لكانَ حتفُك في ما تَمنيتَ و سَعَيت !

فردِّد ( ولا مُعطِيَ لما مَنَعْت ) .. إذ كلّ شيءٍ { عنده بِمقدار } !

و تَأهْب لِفَهم معنى { على قَدَر } .. و تَأدَّب إذ

( بِاحْتِمالِ الْمُؤَنِ ، يَجِبُ السُّؤْدَدُ ) ..!

واصْبِر على أسرارِ حِكمَة اللهِ في القَدَر !

وسَبِّح في عُبوديةٍ واستسلامٍ ؛ معَ حَركةِ المَوجِ التي تَغمرُ الوجودَ !

معَ طاقةِ الخيْر .. معَ تَسبيحِ الكونِ .. مع كلّ ذرةٍ تُنشدُ تَراتيلَ الصّلاةِ ..

دونَ أنْ تُوقِفَ حُلمَك بمائدةٍ على النّجوم !

{ ثمّ جِئتَ على قَدَرٍ يا مُوسَى } .. هُنا .. يَبسطُ القَدرُ كفَّه ، ويحتضنُ لك

النّهارَ ؛ لأنكَ في عُمقِك كنتَ شُعاعَ نورٍ .. تَليقُ بكَ مَعيَّةُ اللهِ !

د.كفاح أبو هنود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق