الخميس، 3 مايو 2018

بين فقه الجندية وفن الأدوار (1)


فقد كان هذا السؤال دائمًا ما يطرُق باب كل خلية في رأسي حين أُبحر
نحو هذه القصة وأعايش مشاهدها وأستشعر نفسيات أبطالها
؛ أسمع أصواتهم, وأتأمل وجوههم متفحصًا وباحثًا عن مزيد مِن
المعاني مِن خلال لغة جسدهم وانفعالاتهم، ولكن السؤال يظل يطرق
ويطرق.. لماذا لم يتكلم؟!
لماذا لم يكن بطلاً لكل مشهد؟!

لماذا لم يشارك بالرأي والتوجيه.. بل والتنظير ووضع
الإستراتيجيات والمنهجيات، وضبط البوصلة التي يفتقدها بنو إسرائيل؟!

كل هذه الأسئلة كان محور إثارتها شخص واحد، هو:
نبي الله داوود -عليه السلام-.

بنو إسرائيل يطلبون القتال، بل يبحثون عن قائد عسكري يُحسن
استثمار هذه الملكات والمهارات، والطاقات والحماسات
{ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }
(البقرة:246).

فكري يطاردني.. يعكر عليَّ صفو متعتي بالقصة، يقول لي بصوت
متسارع: أُخرج عليهم يا داوود وقل لهم: أُقدر حماستكم ومهارتكم،
وأسأل الله أن يبارك في هذه الطاقات، ولكن عالم الأفكار لم يكتمل
بعد رغم سماعي لقولكم .

{ وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا }
(البقرة:246)،
ولكنه لم يتكلم -عليه السلام-.

وحدث الحادث..
{ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }
(البقرة:246)،
المشاهد تتوالى، والأحداث تتسارع..

{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا }
(البقرة:247)،
ترى بماذا سيجيبون؟!

فتأتي الإجابة:
{ قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ
سَعَةً مِنَ الْمَالِ }

(البقرة:247).

فكرى يطاردني مرة أخرى بنفس السؤال المتسارع؟ لماذا لم يخرج
عليهم داوود -عليه السلام- حتى ولو لم يُنبأ، ويقوم بحل هذه المحنة
المفاهيمية.. ما هذا الذي يقوله بنو إسرائيل؟! ما علاقة الحرب بالمال؟!

اخرج يا داوود وتكلم.. قم بدورك..

اصبر يا عقلي واترك الآيات تتوالى.. انتظر قليلاً!

والحمد لله.. جاءت الإجابة مِن نبيهم:
{ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ
وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

(البقرة:247).

تحرك الجيش، واقتربت المعركة.. ويا لها مِن موجات نفسية تحتاج
إلى ربان يُبحر بسفينته فوقها:
{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ
فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ }

(البقرة:249).

جاء دور داوود الخطيب -عابد بني إسرائيل-، الكفاءة الدعوية المنتظرة
التي يتنبأ لها الجميع بالقيادة والسؤدد، والمستقبل الدعوي البراق..
ليقول لهم: جاء دور الاختبار اثبتوا, تهيئوا, أحسنوا تفلحوا,
ولكنه لم يتكلم
{ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ }
(البقرة:249).
الله المستعان.. تساقط البعض.

{ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ
بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ }

(البقرة:249)،
محنة مفاهيمية أخرى، ولكني لن أتكلم.. أنتم تعرفون ماذا سأقول..

ثم..
{ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً
بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }

(البقرة:249).

قطعًا كان داوود -عليه السلام- مع مَن قال هذا القول المنجي
-بإذن الله-.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق