جمال القرآن
لماذا لا نشعر بجمال القرآن؟
ليس القرآن مجموعة أفكار.. القرآن فوق كونه حقا يُنشيء حالة نفسية
في قارئه، وإدمان تلاوة القرآن تصنع ذائقة فكرية وشعورية يميز الإنسان
بها بين الحق والباطل حتى وإن لم يتمكن من التعبير عنها
إننا نفقد الشعور بالقرآن لأننا فقدنا الشعور باللغة.. تماما مثلما لا نشعر بلذة
الشعر المترجم عن الإنجليزية والفرنسية والهندية وغيرها..
يبدو لنا الشعر المترجم ككلام متكلف ومعاني عسيرة!
(2)
ربما مرَّت علي أيام أكثرت فيها من قراءة الشعر والأدب حتى ليشعر المرء
أحيانا أن موسيقى الشعر حاضرة في ذهنه عميقة في روحه.. تلك هي الأيام
التي أشعر فيها إذا قرأت القرآن بأن له طعما مختلفا.. وهو أمر لا يمكن
وصفه، إذ كيف يوصف طعم لمن لم يذقه، وكيف توصف لذة لمن لا يعرفها؟!
وكنت إذا ارتقيت المنبر فخطبت في الناس فتلوت آية، وجدت لها طعما
عجيبا، كمن يبحث عن شيء فيلقاه فجأة بين يديه، كمن يتعطش لوصف
معنى يتحير فيه فإذا بالآية ترويه وتغذيه وتشبعه وتمتعه..
وذات ليلة كنت أقرأ في سورة النجم، فنسيت نفسي، فأخذت آياتها الأخيرة
ذات الإيقاع القصير السريع تهبط بي وتصعد، حتى جاء قول الله
(فاسجدوا لله واعبدوا) فوجدتني أسجد بلا تفكير.. في سجودي هذا تذكرت أن
النبي لما قرأ هذه الآيات على ملأ من قريش سجدوا من فورهم، فأشيع لهذا
أنهم أسلموا.. حينها فقط فهمت سجودهم وتأثرهم!
(أرجو أن تفتح المصحف، وتجرب)
وحينئذ فهمت خطتهم التي شعارها "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم
تغلبون"، وكيف أن عبد الله بن مسعود حين كان يُسْمِعهم القرآنَ كان
يُعرضهم لحالة عنيفة من الأزمة، تماما كما تخلص قوم ثمود من الناقة
المعجزة.. لم يتحملوا أن يروا المعجزة التي تثبت لهم صدق النبي
وخطأهم فذبحوها!!
في مثل هذه المواقف أتفهم أكثر نظرية أبي فهر.. وفي هذه المواقف أتحسر
على ضياع ذائقة اللغة أكثر.. وعندها يقع قلبي كلما تذكرت أجيالنا
التي تدرس في المدارس الأجنبية فتكاد الصلة أن تنقطع بينها
وبين القرآن الكريم..
(3)
وضعت كتب كثيرة في بلاغة القرآن، لكن غالبيتها لم تعد تناسب القارئ
المعاصر، إما لأنها كُتِبَت في الأصل لعلماء البلاغة وأهل اللغة،
وإما لأنها كُتِبَت في الزمن الماضي فلم تعد لغتها ولا أساليبها
في التصوير تناسب حال العصر الآن..
ولذا لا أجد من بين هذه الكتب أنسب لأهل عصرنا الآن من كتب الشهيد سيد
قطب، مثل "التصوير الفني في القرآن" وهو فتح في بابه، لم يكتب مثله
قبله على كثرة ما كُتِب في الموضوع، وتلك هي نظريته التي بنى عليها
تفسيره "في ظلال القرآن" في طبعته الأولى، قبل أن يزيدها قيمة وجمالا
وحياة وقوة بما أضاف إليها بعد رسوخه في الفكر الإسلامي من أفكار. ثم إنه
استلَّ من هذه النظرية كتابه الآخر "مشاهد القيامة في القرآن الكريم"!
جرب أن تقرأ "في ظلال القرآن" لتشعر بالفارق
في استشعار لذته ونعيمه!
(4)
هل يمكن أن تصف جدارا آيلا للسقوط كهذا الوصف
"جدارا يريد أن ينقضَّ"؟!
هل تجد وصفا لمن يعود باكيا خيرا من "
تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا"؟!
هل تجد وصفا لقوم انسحبوا من المجموع
ليتشاوروا معا أقصر من "خَلَصوا نَجِيَّا"؟!
هل تجد تعبيرا عن طلوع الصبح أجمل وأرق وألطف من "والصبح إذا
تنَفَّس"؟! أو تعبيرا عن تسلل الليل أحلى وأدق من "والليل إذا عسعس"؟!
القرآن ينزعك من همومك اليومية وتفاصيلك الصغيرة ليضعك في صورة
الحقائق الكبرى، صورة الكون والناس والخلق، معركة الحق
والباطل المستمرة منذ آدم والممتدة في نهر الزمان
جرِّب أن تصف عاقبة قوم لم يتعلموا من أخبار التاريخ بأحسن من
"ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مُزْدَجَر، حكمةٌ بالغة فما تُغْنِ النُّذُر"..
جرب أن تنطق عن ناصح لم يستجب له قومه بأحكم من
"يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، ولكن لا تحبون الناصحين"؟!
جرب أن تعبر عن العلم والقدرة والهيمنة بأفضل من
"وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر،
وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض،
ولا رطب ولا يابس، إلا في كتاب مبين"..
جرب أن تصف صورة الرجل الأشيب بأكثر من
"واشتعل الرأس شيبا"..
كأنك ترى صورة اشتعال التهب في الرأس ثم تركها بيضاء!
جرب أن تصف الشئ
(5)
ليس القرآن مجموعة أفكار.. القرآن فوق كونه حقا يُنشيء حالة نفسية
في قارئه، وإدمان تلاوة القرآن تصنع ذائقة فكرية وشعورية يميز الإنسان
بها بين الحق والباطل حتى وإن لم يتمكن من التعبير عنها..
القرآن ينزعك من همومك اليومية وتفاصيلك الصغيرة ليضعك في صورة
الحقائق الكبرى، صورة الكون والناس والخلق، معركة الحق والباطل
المستمرة منذ آدم والممتدة في نهر الزمان مع كل نبي والتي لا تزال فصولها
تتجدد وتتكرر.. فتجد أنك صرت أوسع صدرا وأهدأ نفسا وأرحب فكرا
وأطول صبرا!
لماذا لا نشعر بجمال القرآن؟
ليس القرآن مجموعة أفكار.. القرآن فوق كونه حقا يُنشيء حالة نفسية
في قارئه، وإدمان تلاوة القرآن تصنع ذائقة فكرية وشعورية يميز الإنسان
بها بين الحق والباطل حتى وإن لم يتمكن من التعبير عنها
إننا نفقد الشعور بالقرآن لأننا فقدنا الشعور باللغة.. تماما مثلما لا نشعر بلذة
الشعر المترجم عن الإنجليزية والفرنسية والهندية وغيرها..
يبدو لنا الشعر المترجم ككلام متكلف ومعاني عسيرة!
(2)
ربما مرَّت علي أيام أكثرت فيها من قراءة الشعر والأدب حتى ليشعر المرء
أحيانا أن موسيقى الشعر حاضرة في ذهنه عميقة في روحه.. تلك هي الأيام
التي أشعر فيها إذا قرأت القرآن بأن له طعما مختلفا.. وهو أمر لا يمكن
وصفه، إذ كيف يوصف طعم لمن لم يذقه، وكيف توصف لذة لمن لا يعرفها؟!
وكنت إذا ارتقيت المنبر فخطبت في الناس فتلوت آية، وجدت لها طعما
عجيبا، كمن يبحث عن شيء فيلقاه فجأة بين يديه، كمن يتعطش لوصف
معنى يتحير فيه فإذا بالآية ترويه وتغذيه وتشبعه وتمتعه..
وذات ليلة كنت أقرأ في سورة النجم، فنسيت نفسي، فأخذت آياتها الأخيرة
ذات الإيقاع القصير السريع تهبط بي وتصعد، حتى جاء قول الله
(فاسجدوا لله واعبدوا) فوجدتني أسجد بلا تفكير.. في سجودي هذا تذكرت أن
النبي لما قرأ هذه الآيات على ملأ من قريش سجدوا من فورهم، فأشيع لهذا
أنهم أسلموا.. حينها فقط فهمت سجودهم وتأثرهم!
(أرجو أن تفتح المصحف، وتجرب)
وحينئذ فهمت خطتهم التي شعارها "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم
تغلبون"، وكيف أن عبد الله بن مسعود حين كان يُسْمِعهم القرآنَ كان
يُعرضهم لحالة عنيفة من الأزمة، تماما كما تخلص قوم ثمود من الناقة
المعجزة.. لم يتحملوا أن يروا المعجزة التي تثبت لهم صدق النبي
وخطأهم فذبحوها!!
في مثل هذه المواقف أتفهم أكثر نظرية أبي فهر.. وفي هذه المواقف أتحسر
على ضياع ذائقة اللغة أكثر.. وعندها يقع قلبي كلما تذكرت أجيالنا
التي تدرس في المدارس الأجنبية فتكاد الصلة أن تنقطع بينها
وبين القرآن الكريم..
(3)
وضعت كتب كثيرة في بلاغة القرآن، لكن غالبيتها لم تعد تناسب القارئ
المعاصر، إما لأنها كُتِبَت في الأصل لعلماء البلاغة وأهل اللغة،
وإما لأنها كُتِبَت في الزمن الماضي فلم تعد لغتها ولا أساليبها
في التصوير تناسب حال العصر الآن..
ولذا لا أجد من بين هذه الكتب أنسب لأهل عصرنا الآن من كتب الشهيد سيد
قطب، مثل "التصوير الفني في القرآن" وهو فتح في بابه، لم يكتب مثله
قبله على كثرة ما كُتِب في الموضوع، وتلك هي نظريته التي بنى عليها
تفسيره "في ظلال القرآن" في طبعته الأولى، قبل أن يزيدها قيمة وجمالا
وحياة وقوة بما أضاف إليها بعد رسوخه في الفكر الإسلامي من أفكار. ثم إنه
استلَّ من هذه النظرية كتابه الآخر "مشاهد القيامة في القرآن الكريم"!
جرب أن تقرأ "في ظلال القرآن" لتشعر بالفارق
في استشعار لذته ونعيمه!
(4)
هل يمكن أن تصف جدارا آيلا للسقوط كهذا الوصف
"جدارا يريد أن ينقضَّ"؟!
هل تجد وصفا لمن يعود باكيا خيرا من "
تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا"؟!
هل تجد وصفا لقوم انسحبوا من المجموع
ليتشاوروا معا أقصر من "خَلَصوا نَجِيَّا"؟!
هل تجد تعبيرا عن طلوع الصبح أجمل وأرق وألطف من "والصبح إذا
تنَفَّس"؟! أو تعبيرا عن تسلل الليل أحلى وأدق من "والليل إذا عسعس"؟!
القرآن ينزعك من همومك اليومية وتفاصيلك الصغيرة ليضعك في صورة
الحقائق الكبرى، صورة الكون والناس والخلق، معركة الحق
والباطل المستمرة منذ آدم والممتدة في نهر الزمان
جرِّب أن تصف عاقبة قوم لم يتعلموا من أخبار التاريخ بأحسن من
"ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مُزْدَجَر، حكمةٌ بالغة فما تُغْنِ النُّذُر"..
جرب أن تنطق عن ناصح لم يستجب له قومه بأحكم من
"يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، ولكن لا تحبون الناصحين"؟!
جرب أن تعبر عن العلم والقدرة والهيمنة بأفضل من
"وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر،
وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض،
ولا رطب ولا يابس، إلا في كتاب مبين"..
جرب أن تصف صورة الرجل الأشيب بأكثر من
"واشتعل الرأس شيبا"..
كأنك ترى صورة اشتعال التهب في الرأس ثم تركها بيضاء!
جرب أن تصف الشئ
(5)
ليس القرآن مجموعة أفكار.. القرآن فوق كونه حقا يُنشيء حالة نفسية
في قارئه، وإدمان تلاوة القرآن تصنع ذائقة فكرية وشعورية يميز الإنسان
بها بين الحق والباطل حتى وإن لم يتمكن من التعبير عنها..
القرآن ينزعك من همومك اليومية وتفاصيلك الصغيرة ليضعك في صورة
الحقائق الكبرى، صورة الكون والناس والخلق، معركة الحق والباطل
المستمرة منذ آدم والممتدة في نهر الزمان مع كل نبي والتي لا تزال فصولها
تتجدد وتتكرر.. فتجد أنك صرت أوسع صدرا وأهدأ نفسا وأرحب فكرا
وأطول صبرا!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق