الثلاثاء، 29 ديسمبر 2020

أمَا آن للإنسان أن يثوب إلى رشده؟

 

أمَا آن للإنسان أن يثوب إلى رشده؟!...



جرثومة صغيرة الحجم، لا يراها الإنسان بالعين المجرّدة، أفزعت الدّول

والأمم وهزّت كيان الإنسان، هذا الّذي ركبه كبرياء بما وصل إليه من حداثة

جعلت يرى ذاته وكأنّه الإله وينفي وجود الرّبّ.. وجعلت البعض الآخر، وإن

اعترف بوجود اللّه ونطق بالإيمان، يغفل عن خالقه وينساه..! جاءت هذه

الجرثومة لتضع الإنسان أمام حقيقته المحدودة وهو الّذي يعتقد أنّه اعتلى

الذّروة الّتي ما فوقها علوّ...!



برزت جرثومة "الكورونا" أسابيع محدودة بعد تصريح لأحد رؤساء الدّول

الكبرى يقول فيه: إنّه لا وجود لقوّة يمكنها أن تقهر بلده..! وبعد أن ذكر

وزير أوروبيّ في اجتماعه بمحافظي بلده أنّ من علامات إمكانيّة تورّط الفرد

في ممارسة الإرهاب: الامتناع عن المصافحة بيده أو التّقبيل.. حجاب

المرأة.. الأثر الّذي يتركه السّجود على النّاصية.. حرص الفرد على أكل اللّحم

المذبوح...! جاء الوباء ليكذّبه ويذكّره بأنه كان يخلط بين تعاليم الإسلام

والإرهاب، وبالتّالي ظَلَم كلّ مسلم بصرف النّظر عن نواياه..؟!

خاصّة وأنّ أغلب مرتكبي العمليّات الإرهابيّة في العالم تربّوا في مجتمعات

علمانيّة لا علاقة لها بالإسلام، وتقول تقارير الشّرطة أنّ جلّهم عُرفوا

باختلال نفسيّ وانحراف.



تفشّت "الكورونا" في العالم، وبقطع النّظر عن كنهها، حقيقتها، مصدرها

وكيفيّة وجودها أو خلفيّاته، فقد أرسلها الخالق عسى أن يعي المستعلي من

بني البشر حقيقته ويتخلّى عن كبريائه المزيف، ويتورّع عن الظّلم ويؤوب

إلى الرّشاد، ويتساءل عن معنى الحياة وعن ماهية دوره فيها،

يقول اللّه في سورة يونس آية 24:



{ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا

أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ

كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }



؛ ولِتُنبّه الغافل إلى مقتضيات إيمانه، لعلّه يعود إليها. هكذا رحمة الخالق

بعباده إذا طغوا في أرضه وحادوا عن العدل يرسل إليهم من جنوده ليذكّرهم

بالحقّ لعلّهم يرجعون عن غيّهم.



تفرّعت "الكورونا" في البلاد ولم تفرّق بين مسلم وكافر لأنّ البشريّة

جمعاء اليوم تحتاج إلى هزّة تُرجِع ذوي العقول إلى خالقها وإلى إرشاده

سبحانه. يقول اللّه سبحانه و تعالى في سورة الرّوم الآية 41:



{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ

لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }...



الكافر اعتدّ بحداثة من إبداعه أعمت بصيرته فتخلّى عن مبدع الأكوان،

والمسلم تخلّى عن تعاليم دينه وابتلعته الدّنيا حتّى كادت أن تكون هدفه

الوحيد، فأقرّ المنكر.



يقول اللّه تعالى:

{ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

(الأنفال 25)



ما هي الإجراءات الوقائيّة الّتي اعتمدها الأطبّاء وأصحاب القرار اليوم

لمقاومة هذا الوباء؟

اعتمدوا آخر ما وصل إليه العلم في مثل هذه الحال:



الحجر الصّحّي المتمثّل في حصر المصابين و عزلهم عن عموم النّاس درءاً للعدوى.



وقد سنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مبادئ الحجر الصّحّيّ منذ 15

قرنا، فأمر بعدم دخول البلاد المصابة بالطاعون تحسّبا من العدوى، وهذا

تصرّف مفهوم قديماً وحديثاً، وأمر أيضا أهل هذه البلاد بعدم الخروج منها،

وهذا مفهوم حديثا فقط إذ يمكن أن يكون الخارج من مكان الطّاعون سليماً

وحاملاً للجرثومة، أمّا قديماً فلم يكن حمل السّليم للجرثومة معلوماً، إنّما كان

الرّسول يوجّه إلى ما فيه الخير عن وحي الهيّ.



وأكّد أصحاب القرار اليوم على الجميع غسل اليدين مرّات عديدة في اليوم

خاصّة عند الدّخول والخروج من البيت، وعلى تقليم الأظافر. فلا يعلم الإنسان

ما يختفي تحتها ولا ما مسّت يده، وقد يمدّها إلى فمه ويتسرّب معها الوباء.



وقد قرّر الرّسول عليه الصّلاة والسّلام مبدأ الطّهارة الّذي يشمل نظافة

الباطن والظّاهر ووضع لها قواعد، في حين اكتفى أصحاب الحداثة بنظافة

الظّاهر.. وكان يهتمّ بنظافة الأيدي اهتمامًا كبيرًا وأوصى بها في مواضع

عديدة وسنّ تقليم الأظافر. فالوضوء للصّلاة يبدأ بغسل اليدين... ومن بركة

الطّعام وطهارته ونظافته غسل اليدين قبله وبعده. ووجّه عليه الصّلاة

والسّلام إلى غسل اليد جيدًا بعد الاستيقاظ من النّوم وقبل غمسها

في أيّ إناء.



لم يكن الرّسول يعلم أنّ اليد يمكن أن تتلوّث فتتسرّب الجراثيم عبرها داخل

الجسم، وأنّ الأظافر معقلاً لاختفائها، ولكنّ الخالق العالم بأسرار مخلوقاته

كان يعلّمه بالوحي لينقل إلى العالمين في كلّ زمان ومكان ما فيه خيرهم.



وعديدة هي ملتزمات الهدي القرآنيّ والأدب النّبويّ الّتي تنصّ على مصلحة

الإنسان وترعى صحّته، والّتي لم تُكتَشَف الحِكَم منها إلّا مع الوصول

إلى الحقائق العلميّة المعاصرة.



جرثومة صغيرة أغلقت على الإنسان منافذ الحركة.. وملأت حياة الإنسان

هلعاً لا ملاذ منه إلّا بالأوبة إلى الخالق والثّقة فيه.



ألا يليق بالإنسان اليوم أن يتدبّر ويفكّر ويستقي من هذا التّلاقي، في محاولة

التّصدّي لهذا الوباء، بين الحقائق العلميّة المعاصرة وتوجيهات الهدي

الرّبّانيّ، أنّ ما أتى به محمّد لم يكن معلوماً في عصره ولا يمكن إلّا أن يكون

من وحي خالق الكون.. ألا ينتبه إلى أنّ الحقائق العلميّة بمفردها لا يمكنها،

من دون رجوع لربّ الكون، أن تحقّق له التّوازن فالهناء.؟!

حياة الإنسان اليوم مع كلّ ما وصل إليه من حداثة ومعرفة تزخر اضطراباً

وارتباكاً وهلعاً.. ما يحدث في العالم اليوم يذكّرنا بأنّ الإسلام هو قمّة الحداثة

الّتي لا نقص فيها لأنّه صدر عن الّذي يتّصف بالكمال ولا يعرف النّقص، وأنّ

ما يصل إليه الإنسان من حداثة يشوبه دائماً النّقص.



يقول روجي غارودي:

العالم اليوم يحتاج إلى "أسلمة" الحداثة لا إلى تحديث الإسلام.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق