الثلاثاء، 6 فبراير 2018

الدعاء ليس صفقة بين بائع وشار (2)


كيف يَلتبِس عليك الأمر حتى لا تفرِّق بين الإله الحق والآلهة الباطلة؟
أم كيف تَختلط عليك الأمور حتى لا تفرِّق بين دين الإسلام والأديان
الباطلة التي لا يَشتبه أمرُها على عاقلٍ؟

يا للهِ العجب! كيف يَرتاب المسلم أو يَنهزم روحيًّا تحت قصْف الواقع الأليم،
والإسلام أهدى طريقًا وأكثر الأديان انتشارًا في شتى بقاع الأرض؟
أتعلَمُ أنه ليس في ديننا ما نخجَل منه وما نضطرُّ للدفاع عنه؟
وليس فيه ما نتدسَّس به للناس تدسُّسًا، أو ما نتلعثَم في الجهر به
على حقيقته؟ بخلاف غيرنا؛ فمعتقداتهم مُهلهَلة ومليئة بالمتناقِضات
وبالنقائض والعيوب، ومُصادمة العقل الصريح والفطرة الصحيحة،
والتصوُّرات عن الأقانيم وعن الخطيئة وعن الفداء لا تستقيم في
عقْل ولا ضمير، بل يُعلم فسادُها ببداهة العقول.

لا يخفى عليك أن الله تعالى لا تَنفعه طاعة المطيع، كما لا يضرُّه كُفْر
الكافر، وأن مَن آمن فلنفسِه، ومَن كفَرَ فعليها، والخطأ الذي وقعتَ فيه
وأوتيت مِن قِبَلِه لما اختبرْتَ ربَّك سبحانه، فجعلت استجابة الدعاء
في مسألة محدَّدة دليلًا على وجود الله تعالى وعلى صحَّة دينه!
وهذا مسلك نُفاة الأسباب وارتباطها بمُسبِّباتها، فقاعدة السببية هي
التي أقام الله عليها العالَم العُلويَّ والسُّفليَّ فلم يَخلق شيئًا إلا مِن مادَّة
وفي مدة وبحكمة، وكان قادرًا سبحانه أن يَخلق بغير سبب أصلًا،
لكنه لم يفعَل لمُنافاته للحكمة، والعبد مُطالَب بالأخذ بالأسباب الموصلة
لمسبِّباتها، ولا يَتلبَّس بموانع التأثير ثم يتوجه لله تعالى بالدعاء،
وكل مَن خالف تلك القاعدة سواء بترك الأخذ بالأسباب أو بعدم التخلُّص
من المانع فلن يُقبل دعاؤه، وإلا للزم أن نقول: إنَّ مَن قعَد عن طلب
الرزق ولم يتخذ الأسباب، وظلَّ يدعو: اللهمَّ ارزقني، فإن على الله أن
يَأمر السماء أن تُمطر عليه ذهبًا أو فضَّة، وكذلك يَستجيب دعاء مَن
توكَّل عليه في تحصيل الولد، وظلَّ يدعوه ليل نهار، ولكنَّه لم يتزوَّج!

وتأمَّل - شرح الله صدرَكَ للحق - توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
لربيعة بن كعب الأسلميِّ، لما قال للرسول: أسألك مرافقتك في الجنة!
فقال له صلى الله عليه وسلم:
( فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود )،
فلم يَكتف سيِّد الخلق وحبيب الرحمن بالدعاء حتى شفَع إليه سبب
الدخول وهو العمل الصالح.

هزيمة المسلمين أيها الابن ليس سببها عدم استجابة الله للدعاء، وإنما
لكون الدعاء جزءًا من كلٍّ، وأنَّ وراء الانتصار أسبابًا مادية ومعنوية كثيرة؛
أوَّلها:
العودة إلى الله، والتوبة بالكفِّ عن موانع الدعاء، ثم النهضة العلمية والمادية؛
فقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
( إذا تبايعتُم بالعِينة، وأخذتُم أذناب البقَر، ورضيتُم بالزرع، وتركتم
الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم )،
وقال أيضًا:
( يوشكُ الأمم أن تَداعى عليكم كما تداعَى الأكَلَة إلى قصْعَتِها )،
فقال قائل: ومِن قلَّة نحن يومئذ؟
قال: ( بل أنتم يومئذ كثير، ولكنَّكم غثاء كغثاء السيل، وليَنزعنَّ الله
من صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهَن )،
فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهَن؟
قال: ( حبُّ الدنيا، وكراهية الموت )؛
رواهما أبو داود.

فتأمَّل ما في الحديثَين مِن أسباب الهزيمة التي هي مِن موانع استجابة الدعاء،
فالمطلوبُ مِن المسلمين مع الدعاء الأخذ بجميع أسباب القُوى وأسباب
الهداية والتجرُّد مِن كلِّ مَوانع الإجابة.

ألم تعلم رعاكَ الله أن الله تعالى ربَط الانتصار بأسباب كثيرة، وليس
بسبب وحيد هو الدعاء، فإذا فعل المُسلم سببًا واحدًا لا يتحقَّق مطلوبه.

أتظنُّ أن رسول صلى الله عليه وسلم حارَبَ الكفار في بدرٍ وأحد والخندق
وخيبر وحنين وتَبوك وغيرها بالدعاء فقط؟! ألم يُظاهر رسول الله بين درعَين؟
أم تظن أنَّ المسلمين الأوائل فتحوا البلدان والأمصار من شرق العالم إلى غربه
ومن الجنوب إلى الشمال بالدعاء وحسب، وبغير أسباب،
وبدون أن يتجنَّبوا موانع الإجابة؟

وتأمَّل الحديث الذي رواه مسلم؛ حيث ذكر رسول الله فيه آداب الدعاء،
والأسباب التي تقتضي إجابته، وما يمنع من إجابته؛
فعن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
( أيها الناس، إن الله طيِّب لا يقبل إلا طيبًا، وإنَّ الله أمر المؤمنين بما
أمر به المرسَلين،
فقال:
{ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }
[المؤمنون: 51]،
وقال:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ }
[البقرة: 172]،
ثمَّ ذكَر الرجل يُطيل السفر، أشعثَ أغبرَ، يمدُّ يديه إلى السماء، يا رب،
يا رب، ومطعمه حرام، ومشربُه حرام، وملبَسُه حرام، وغُذي بالحرام،
فأنَّى يُستجاب لذلك؟ )،
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( فأنَّى يُستجاب لذلك؟ )
استفهام وقَعَ على وجه التعجُّب والاستِبعاد.

فتأمَّل ما كتبته أيها الابن لتُدرك أن الشُّبَه التي أحاطت بك مبناها على
الفهم المغلوط للإسلام، وأنك اختزلت الإيمان في قضية واحدة، وفي
دعوة محدَّدة، ولم تُراع استيفاء أسبابها، وتخلف موانعها، وجعلتَها
الدليل على وجود الله، وعلى صحَّة الإسلام، فإن لم يستجب الله
الدعاء فالإلحاد هو الطريق السليم.

لا تظنَّ أيها الابن أن وجود الله يَفتقر إلى دليل؛ فهو سبحانه وتعالى
مُستغنٍ بمُشاهَدة المدلول عليه عن طلب الدليل، فإنَّ طالب الدليل إنما
يطلبه ليصلَ به إلى معرفة المدلول، فإذا كان مُشاهدًا للمَدلول، فما له
ولطلب الدليل؟

وكيف يَحتاج إلى إقامة الدليل عليه مَن النَّهار بعض آياته الدالَّة عليه؟
{ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ }
[فصلت: 37]،
أم كيف يطلب الدليل على مَن هو دليل على كل شيء؟
وما أصدق ما قيل:

وليس يصحُّ في الأذهان شيءٌ
إذا احتاجَ النَّهارُ إلى دليلِ
فتدبَّر كيف خاطب الرسُلُ قومَهم خطاب مَن لا يشكُّ في ربه،
ولا يرتابُ في وجودِه؛
{ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }
[إبراهيم: 10].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق