الجمعة، 7 سبتمبر 2018

كُفُّوا عن الجدال! (4)


فالجواب ما أجاب به الإمام الغزالي رحمه الله:
أن الذم المتأكد إنما هو لمن خاصم بالباطل أو بغير علم، كوكيل القاضي،
فإنه يتوكل في الخصومة قبل أن يعرف أن الحق في أي جانب هو فيخاصم بغير علم .
ويدخل في الذم أيضًا من يطلب حقه، لكنه لا يقتصر على قدر الحاجة، بل يظهر اللدد والكذب للإيذاء والتسليط على خصمه،
وكذلك من خلط بالخصومة كلمات تؤذي، وليس له إليها حاجة في تحصيل حقه، وكذلك من يحمله
على الخصومة محض العناد لقهر الخصم وكسره، فهذا هو المذموم.
وأما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف
وزيادة لجاج على الحاجة من غير قصد عناد ولا إيذاء، ففعله هذا ليس حرامًا؛
ولكن الأوْلى تركه ما وجد إليه سبيلًا، لأن ضبط اللسان في الخصومة على حد الاعتدال متعذِّر،
والخصومة توغر الصدور، وتهيج الغضب، وإذا هاج الغضب حصل الحقد بينهما، حتى يفرح كل واحد
بمساءة الآخر، ويحزن بمسرته، ويطلق اللسان في عِرضه، فمن خاصم
فقد تعرَّض لهذه الآفات، وأقل ما فيه اشتغال القلب حتى إنه يكون في
صلاته وخاطره معلَّق بالمحاجة والخصومة فلا يبقى حاله على الاستقامة أهـ (الأذكار، النووي، ص: [371]).
- ومن ثم فإن الجدال على النحو مجلبة للعداوة وذريعة للكذب وبابًا من أبواب الفتنة
واتباع الهوى وسببًا من أسباب التفكك الاجتماعى من جرّاء التعصب الذي يؤل إلى التنابز والتنافر وتنامي الحقد والكراهية.
- ومن آثاره أيضًا تغليف القلب بالقسوة ونزوع الخشية، وكراهية الحق
في جانب المغلوب، وتنامي الغرور والكِبْر في جانب الغالب، فضلًا عما
يجلبه للنفس من هم وغم، من حيث أنه شهوة للنفس إذا ثارت لا بد
من إشباعها، وإلا أصابت صاحبها بالتوتر والقلق اللذان يؤلان إلى الكدر والحزن.
- قال النووي رحمه الله: قال بعضهم: ما رأيت شيئًا أذهب للدين،
ولا أنقصَ للمروءة، ولا أضيع لِلَّذة، ولا أثقل للقلب من الخصومة.
- وقال عبد الله بن حسين بن علي رضي الله عنهم:
المِراء رائد الغضب، فأخزى الله عقلًا يأتيك بالغضب.
والآن يلوح في الأفق سؤالًا هو ثمرة البحث؛ كيف تعامل الإسلام
مع هذه الظاهرة؟ لعلنا قد أشرنا أعلاه إلى ضوابط المباح، وأن
الأصل فيه الذم وهو ما عليه أكثر النصوص، لذلك فقد حذَّرت النصوص القرآنية منه أيَّما تحذير،
ونفَّرت منه أشد تنفير،
ودعت كذلك لمجانبة أهل الأهواء وعدم الخوض معهم في جدال
لا يُرجى منه خير.
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجدال علامة الضلال بعد الهداية،
ومؤشر الانحراف عن الجادة؛ لما يترتب عليه من آثار موبقة
ونتائج مهلكة، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
( مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ ).
ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ:
{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}
[الزخرف من الآية:58]
(رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَة، وصحَّحه الألباني).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق